&إياد أبو شقرا


عام 1859م، قبل اندلاع الثورة الفرنسية وإبّانها، ألف الروائي البريطاني الشهير تشارلز ديكنز روايته الخالدة «قصة مدينتين».. أما المدينتان في تلك الرواية، التي كانت تروي جوانب من معاناة الطبقة الفلاحية في فرنسا على أيدي الإقطاعيين، فهما باريس ولندن.


قبل ذلك التاريخ، عاشت مدينتان عريقتان شرق أوسطيتان هما حلب والموصل تحت حكم أسرة واحدة هي الأسرة الحمدانية التغلبية الوائلية، المتحدرة من ربيعة بن نزار بن عدنان. دولة بني حمدان (890 - 1004م)، كما كانت تُعرف أيضًا، خلّدها شعر أبي الطيب المتنبي في أحد ألمع رجالها سيف الدولة الحمداني أمير حلب، الذي كان يعاصره في الموصل «ابن عمه» ناصر الدولة، وما كان ولاء هذه الأسرة للعروبة أو نضالها في حماية الثغور بحاجة إلى إثبات.


إلا أن حلب والموصل، ثاني حواضر سوريا والعراق المعاصرة من حيث تعداد السكان، وأجملها بيئة وأغناها تنوّعًا وأرقاها معيشة، تعيشان هذه الأيام محنة حقيقية. فحلب تئن تحت وطأة حصار تجويع وقتل خانق يمارسه نظام بشار الأسد وسلاح الجو الروسي وميليشيات إيران الطائفية. وهي مهدّدة بإحدى أسوأ جرائم التبادل السكاني بالقوة في تاريخ العالم العربي الحديث منذ نكبة فلسطين. ولا يبدو مصير الموصل أقل سوءًا إذا ما تُرك أمر «تحريرها» من آفة «داعش» لميليشيا «الحشد الشعبي» الطائفية التي كشفت هويتها غير مرة في مجازر المقدادية والفلوجة ومناطق أخرى من العراق.
ليس مصادفة أن تجمع المصيبة حاضرتي العروبة في شمال سوريا والعراق، ولا غرابة أن تستهدف العاصفة التدميرية التي تهب على المشرق العربي منذ عام 2003 تغيير النسيج السكاني جنبًا إلى جنب مع إعادة رسم خرائط الكيانات وتقاسم النفوذ؛ إذ تتشارك المدينتان بهوية سكانية تعبر خير تعبير عن واقع ديمغرافي مطلوب نسفه من أساسه كجزء من المخطط المعدّ للمنطقة برعاية القوى الدولية والإقليمية الصاعدة. ففيهما غالبية سكانية سنّية عربية، مع أقليات كبيرة، بداخلهما وفي ريفيهما، مسيحية وغير مسيحية، عربية وغير عربية، كلها عاشت بخير وأمان على امتداد القرون.
أما كلام جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الأميركية، بالأمس، عن «تشاؤمه» إزاء مستقبل سوريا، وتلميحه اللافت إلى تقسيمها، فليس سوى إقرار بالجهود التي يبذلها أكثر من فريق أيضًا باتجاه تقسيم العراق - وربما تركيا كذلك - والإعداد الجدّي لتأسيس دولة كردية مستقلة تتصرّف عدة جهات داخل سوريا والعراق على أساس أن قيامها أضحى مجرد مسألة وقت ليس إلا. ولقد جاء الاضطراب الأخير في تركيا، الذي بدأ وقد لا ينتهي قريبًا، ليؤكد ديناميكيات الاهتزاز والتغيير، وبالأخص، بعدما صمت المجتمع الدولي طويلاً إزاء مسيرة تحويل أراضي سوريا والعراق إلى معسكر كبير لاستقطاب الجماعات الراديكالية السنّية وتجميعها وتدريبها، كخطوة ضرورية لتمرير المخطّط المذكور وتبريره.


روسيا ونظام الأسد، الذي طالما زعمت أنها لا تتمسك به، يعملان حاليًا، بالتوازي مع جهود إيران العسكرية الحثيثة، على خلق واقع ديمغرافي جديد وخطير تدفع ثمنه الغالبية السكانية العربية المسلمة السنّيّة. وكان قد بدأ العمل فيه، ثم سار تنفيذه قدمًا، في مدينة حمص ومحيطها إثر عملية تهجير سكاني مدروسة بعناية لربط العاصمة دمشق بالساحل السوري والعُمق اللبناني المُسيطَر عليه عبر ميليشيا «حزب الله»، وبعدها شمل دمشق وريفها. وفي أعقاب «إنجاز» تهجير نحو 13 مليون سوري جلّهم من السنة العرب، يعمل نظام الأسد الآن بالتعاون مع موسكو وطهران، في ظل صمت واشنطن المريب، على إخلاء ما بين 300 و400 ألف مواطن في أحياء حلب المحاصرة وتشريدهم كما شُرّد من قبلهم سكان ريف حلب.


في العراق أيضًا، بعد «تحرير» الفلوجة من «داعش» تتركّز الجهود على تحرير الموصل التي جعل منها التنظيم المتطرّف مركزًا أساسيًا له يوازي من حيث أهميته الرقّة «عاصمته» السورية. وفي الموصل أيضًا، واضح أن المجتمع الدولي لا يستبعد كارثة تهجير في المدينة التي يقدّر عدد سكانها بنحو مليون ونصف المليون. ومثلما كان متعذّرًا على جيش بشار الأسد أن يفعل شيئًا على جبهة حلب لولا الدعم الاستراتيجي الروسي جوًا والإيراني والكردي برًا، فإن الوزن السياسي لرئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي الذي لا يزيد على الوزن العسكري لجيش الأسد يعني أنه ليس سيد نفسه. وبالتالي، فلا هو ولا وجوه حكومته يقرّرون شيئًا في ظل الثقل العسكري الإيراني والتزام واشنطن بتفاهماتها مع طهران، ناهيك عن جيش «البيشمركة» الكردي الذي غدا جيشًا كامل التجهيز لدولة شبه قائمة رسميًا هي إقليم «كردستان العراق». إن العبادي أضعف من أن يمنع «الحشد الشعبي» من القتال في الموصل، كما أنه أعجز من أن يحسم مصير الموصل بعد تحريرها من «داعش».. ومن نسبة عالية من أهلها، عندما يحين وقت رسم خريطة شمال العراق، وتحديد علاقة أكراد العراق بأكراد سوريا.


إزاء هذه الصورة المقلقة، يجب الإشارة إلى عامل سلبي لولاه ما كان ممكنًا لمؤامرة الاقتلاع والتهجير أن تنفذ، ألا وهو وجود الفصائل المتطرفة الطارئة على نسيج المشرق العربي، التي جاءت من مختلف أنحاء العالم بحجج كـ«نصرة» شعب سوريا أو «قتال الكفار» وبناء «الدولة الإسلامية» في العراق، والتي حتى اللحظة كان المسلمون العرب السنة المتضرر الأكبر من تجاوزاتها!
إن إعلان القيادي البارز «أبو محمد الجولاني» في «جبهة النصرة»، بالأمس، فك الارتباط بتنظيم «القاعدة» وتأسيسه جبهة «فتح الشام» جاء ليؤكد أن لا شيء قد تغيّر. لقد ثبّت «الجولاني» ما كان يقال عن أن تنظيم «القاعدة» موجود بكل أهدافه وأدبياته وشعاراته وتجاوزاته التي لا تسمح بقيام دولة سورية وطنية تعدّدية تتسع لجميع أبنائها. وبالتالي، وفّر الحجج الداعمة لزعم موسكو ومؤيديها في العواصم الغربية بأن القضاء على الثورة السورية إجراء مبرّر بل وضروري، ولا سيما، بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة في أوروبا وأميركا.. في عصر الإسلاموفوبيا!
&

&