أمير طاهري

يسود الانطباع لدى كل من يتابع الجدل الدائر في وسائل الإعلام الأميركية والأوساط السياسية هذه الأيام بأن العصر الذهبي على وشك الأفول، وأن شيًئا مأساوًيا على وشك الحدوث. والنخب السياسية والثقافية في مزاج سيئ للغاية كذلك.

والسبب الرئيسي وراء هذا المزاج السيئ هي الانتخابات الرئاسية الحالية، التي تدور بين اثنين من المرشحين اللذين لا يحظيان بشعبية كبيرة، هيلاري كلينتون من الحزب الديمقراطي، ودونالد ترامب من الحزب الجمهوري، في مواجهة بعضهما في قتال سياسي يتجاهل قاعدة ماركيز كوينزبيري.

ومما زاد الطين بلة، فإن الرئيس الحالي باراك أوباما، كان قد انضم إلى الشجار السياسي عندما أعلن أن ترامب غير مؤهل لتولي منصب الرئاسة. وإذ إنه لا توجد قواعد مقررة قانوًنا حول المؤهلات المطلوبة لشغل منصب الرئيس، بأكثر من القواعد الفنية مثل أن يكون الرئيس مولوًدا في الولايات المتحدة، ليس من الواضح كيف تمكن أوباما من التوصل لهذا الاستنتاج.

إذا كانت المؤهلات تستلزم بعض الخبرة في شؤون الحكم، إذن، فإنه في عام 2008 أيًضا، لم يكن أوباما مؤهلاً بالمعنى المقبول. وحتى في ذلك الوقت، فالخبرة الحكومية ليست ضماًنا للرئاسة الفعالة للبلاد. والعديد من بين الـ44 رئيًسا الذين شغلوا منصب رئيس الولايات المتحدة كانت لديهم خبرات سياسية كبيرة سابقة، بما في ذلك منصب نائب الرئيس، ولكن وفًقا لقانون ميرفي، بعض تلك التجارب الرئاسية انتهت بقصصفشل ذريع في داخل البيت الأبيض. وأحد الأمثلة هو الرئيس جون تايلر، الذي خدم في الفترة بين عامي 1858 - 1841. والآخر كان جيمي كارتر في الفترة بين 1981 - 1977.

وعلى أي حالة، إنها قاعدة الناخبين التي تعين الرئيس، وهي التي يجب أن تقرر من المؤهل ومن غير المؤهل لشغل ذلك المنصب.
تعرض ترامب أيًضا للهجوم بسبب استخدامه للغة خطابية، وحتى نصفها بأدب، كانت أبعد ما تكون عن حدود الأدب، ناهيكم بأن توصف بالتهذيب. ولكن هنا أيًضا، يمكن لترامب العثور على بعض من أسلافه اللامعين من بين الـ44 رئيًسا السابقين. فالرئيس أندرو جونسون (1869 - 1865) كان جنرالاً عسكرًيا سابًقا، ولكنه كان يتحدث بلغة هي أقرب للتي يتحدث بها الرقباء اللامعون في الجيش. 

ولغة الرئيس تيودور روزفلت كذلك كانت أبعد ما تكون عن الرومانسية الحالمة، وخصوًصا عند حديثه ومهاجمته لخصومه السياسيين. اسم هيلاري كلينتون المستعار لدى ترامب هو «هيلاري الملتوية». وهو توصيف لطيف بالمقارنة بصفة «فان
المخرب»، وهو الاسم المستعار الذي ألحقه الخصوم السياسيون بالرئيس مارتن فان بورين (1841 - 1837) من
قبل.

أما بالنسبة للادعاء بأن السيدة كلينتون، صوتت لصالح غزو العراق ثم انضمت إلى «جوقة السلام الزائفة» الخاصة بالرئيس أوباما، فليس إلا دوارة من دوارات الرياح ذات السوابق المماثلة. حيث نقل عن الرئيس الأسبق ويليام هوارد تافت (1913 - 1909) أنه أبلغ مؤتمره الانتخابي الذي رشحه للرئاسة بأنه «حسًنا، تلك هي مبادئ. ولكن إن لمَتُرق لكم، فلدي مبادئ أخرى»!

يتهم أنصار ساندي بيرنرز السيدة كلينتون بالغش في الفوز بترشيح الحزب. ولكن هذا أيًضا له العديد من السوابق في تاريخ الرئاسة الأميركية. فلقد تمكن الرئيس جون كوينسي آدامز من دفع نفسه إلى أعتاب البيت الأبيض عبر سلسلة من الصفقات السرية الخبيثة ليشغل منصب الرئيس السادس للولايات المتحدة (1825 – .(1829

وأتذكر صدمتي العارمة في رؤيتي الوردية الحالمة للولايات المتحدة عام 2002، عندما قال السيناتور جوزيف بايدن، الذي شغل في وقت لاحق منصب نائب رئيس الولايات المتحدة، أمام جلسة في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس إن ديمقراطية الولايات المتحدة كانت مجرد واجهة خارجية حتى يصبح جورج دبليو بوش وليس آل غور رئيًسا للبلاد.

أشعر بكثير من التعاطف نحو أصدقائي الأميركيين اليوم، الذين يشعرون أنهم في مواجهة خيار وحيد. بعض المعلقين الأميركيين وقعوا في فخ الحنين للعصر الذهبي المفترض، يتوقون إلى بعض الخيارات الرومانسية الماضية.

ولكن هل كان الخيار بين جيرالد فورد وجيمي كارتر مثيًرا حًقا؟ أو كان الخيار بين جورج بوش الأب ومايكل دوكاكيس هو أفضل عرضفي التاريخ؟ يشعر الأميركيون بالفخر بالتأكيد على «أي شخص» يمكنه أن يصبح رئيًسا للبلاد. والتاريخ، رغم كل شيء،
يقول شيًئا آخر.

حتى وقت قريب يتعين عليك أن تكون شخصية بارزة حتى تتمكن من تولي منصب الرئاسة. لا بد أن تكون رجلاً بادئ ذي بدء.
ثم، لا بد أن تكون أبيض البشرة ومن أصول أوروبية مسيحية. ومن بين الرؤساء الـ44، كان هناك 17 رئيًسا من ذوي الخلفية المهنية العسكرية من مختلف الفترات وحتى رتبة الجنرال (ويشمل هذا جيمي كارتر، الذي كان ملازًما في البحرية). أما البقية الباقية، 17 رئيًسا، فكانوا حكام ولايات سابقين، وكانت ولايات كبيرة في غالب الأمر. كذلك، كان هناك 16 رئيسا منهم يحملون لقب السيناتور (وفي بعض الحالات، فإن الرجل الذي يرتقي لمنصب الرئيس كان يملك أكثر من خلفية واحدة مما ذكرنا).

كما أن الروابط العائلية كانت مهمة للغاية أيًضا، حيث تولى اثنان من أبناء الرؤساء السابقين منصب الرئيس، جون كوينسي آدامز وجورج دبليو بوش. والحفيد، بنيامين هاريسون، أعقب جده ويليام هنري هاريسون على منصب الرئيس. وابن الأخ، تيودور 
روزفلت، أعقب عمه، فرانكلين دي روزفلت، على منصب الرئيس. كما سيكون الأمر أفضل كثيًرا إذا كنت ثرًيا، بما في ذلك ملكية مساحات شاسعة من الأراضي، وامتلاك عدد كبير من العبيد قبل إلغاء تجارة وامتلاك الرقيق. وعلى الرغم من أن عدًدا قليلاً من الرؤساء يتحدرون من عائلات ذات قدرات مالية متواضعة، ومن أبرزهم الرئيس الأسبق ويليام ماكينلي، أحد رؤساء الولايات
المتحدة الذين تعرضوا للاغتيال، فإن الأغلبية تتحدر من عائلات الطبقة فوق المتوسطة الذين تمتعوا بمستوى راق من التعليم، الذي لم يتوفر حتى وقت قريب إلا إلى حفنة قليلة من المواطنين الأميركيين.

تمكنُت بين عامي 1968 و2008 من تغطية، أو على الأقل كان لي اهتمام كبير بالعديد من الانتخابات الرئاسية الأميركية، ويمكنني أن أقول لكم إنه في كل مرة كان الشيء المهم هو الانطباع المستمد عن شخصية المرشحين، وليس سياساتهم. ومن المزحات الملتوية التي يمارسها بعض الزملاء الصحافيين ما ينقل عن أحد المواطنين الذين يؤيدون أحد المرشحين، وهي مقولة تعبر عن سياسات المرشح المنافس وسؤاله عن رأيه في ذلك. وفي كل حالة تقريًبا يوجه السؤال للناخب المحتمل كان يؤيد تلك السياسة!

كان أوباما هو أول «أي شخص» يتولى منصب الرئاسة. ويمكن لهيلاري كلينتون أن توسع من نطاق مفهوم «أي شخص» إلى الجانب الأنثوي من القصة. لم يكن لدى أي من المرشحين أي سياسات واضحة في حملة عام 2008. وزعم السيناتور ماكين حامل لواء الحزب الجمهوري المخضرم أنه كان الرجل الذي يستطيع الحيلولة دون تحول الولايات المتحدة إلى دولة «اشتراكية» مع باراك أوباما، الذي سّوق نفسه للناس بأنه بشير السلام والمحبة العالمي. وغني عن القول إن أوباما كان من دعاة الاشتراكية بقدر ما كان جون ماكين من دعاة الحرب، أو كما صوره الحزب الديمقراطي آنذاك. وفي نهاية المطاف، أصبح أوباما يحمل صفة «المحارب المتردد» الذي ينشر الموت والخراب عبر الطائرات من دون طيار.

وهذه المرة أيًضا، يقوم الخيار بين شخصيتين، إذ إن السياسات الأساسية للولايات المتحدة تتشكل من خلال عملية أكثر تعقيًدا من مجرد القرارات الرئاسية. وفي بعض الأحيان، يمكن للرئيس أن يتخذ قرارات سياسية على غرار قرارات شن حرب العصابات تلك التي تتجاهل تماًما نظم صنع القرار السياسي المعترف بها.

ولقد صنع الرئيس الراحل رونالد ريغان الشيء نفسه عندما هرب الأسلحة إلى إيران وإلى متمردي الكونترا في عامي 1985 و1986، بمحاولة التفاف على الكونغرس الأميركي. ولقد صنع أوباما الشيء ذاته مرة أخرى، من خلال اتفاقه النووي مع إيران، وهي القضية الكلاسيكية للخداع الدبلوماسي. ولكن في كلتا الحالتين، لم ينتج أسلوب حرب العصابات في اتخاذ القرارات أي سياسة طويلة الأمد.

إذا كنت تريد انتخابات رئاسية مهذبة وغير مثيرة لدرجة الملل فعليك التوجه إلى روسيا أو حتى روسيا البيضاء. إن السياسة الرئاسية الأميركية قبيحة، ومقززة في بعض الأحيان. ولكن النتيجة هي استمرار لعملية الديمقراطية، وهي أقل نظم الحكم سوًءا، التي يمكن تصورها بالنسبة للمجتمع متعدد الأعراق تمزقه الانقسامات التي لا تعد ولا تحصى.

هل كان هوراس والبول هو الذي قال إنه لا ينبغي على أحدنا زيارة مصنع النقانق حيث الرائحة الكريهة والاشمئزاز من المنظر، ولكن يكفي أن تستمتع بالمنتج النهائي؟