&جمال سند السويدي

لا يختلف اثنان على أن تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية في نيويورك وواشنطن تنتظم ضمن أهم أحداث القرن الحادي والعشرين وأخطرها، فقد كانت بمنزلة الزلزال الذي ضرب الولايات المتحدة الأميركية، ووصلت ارتداداته إلى أنحاء العالم كافةً، خصوصاً أنها استهدفت كبرياء أميركا، ورموز قوَّتَيها الاقتصادية والعسكرية، المتمثلة في برجَي التجارة العالميَّين ووزارة الدفاع، وكان مخطَّطاً للطائرة الرابعة التي انفجرت قبل أن تصل إلى هدفها أن تضرب البيت الأبيض أو الكونجرس. وهذا خلق حالة من الاستنفار والغضب والإحساس بالمهانة والعار، على المستويَين الشعبي والرسمي، دفعت إلى ما يشبه «الانقلاب» في السياسة الأميركية، عنوانه سرعة الانتقام واستعادة الكبرياء والكرامة المهدَرة، من خلال عمليات عسكرية كبيرة وكاسحة تُظهِر للعالم القوة الأميركية، وتعيد إلى الشعب الأميركي ثقته بنفسه وببلده بعد أن اهتزَّت بقوة. وفي ظل هذا الجو الهستيريِّ المغلَّف برائحة الدم ورغبات الانتقام، لم يهتم أحد في الولايات المتحدة الأميركية بالتدقيق في القرارات أو السياسات، أو الدعوة إلى التريُّث والتفكير، فوقعت الأخطاء الكارثية التي دفع العالم كله ثمنها، ولا يزال.

ولعلَّ ما زاد من وطأة تفجيرات 11 سبتمبر، وخطورة التفاعلات اللاحقة لها على العالم، أنها جاءت في ظل سيطرة تيار «المحافظين الجدد» على مراكز السلطة وصنع القرار في واشنطن بتوجُّهاته الخارجية الخطِرة في إدارة العلاقات الدولية، ورؤيته حول دور القوة العسكرية في ذلك، إضافة إلى دور الدين، كما جاءت هذه التفجيرات في الوقت الذي كانت تشعر فيه الولايات المتحدة الأميركية بأنها على قمَّة قيادة العالم في المجالات المختلفة، وهذا يفسر جانباً مهماً من مواقفها المتشنِّجة والمفرطة العنف في الرد على هذه التفجيرات، بهدف تأكيد قوتها وجدارتها بقيادة العالم.

وإذا كان العالم كلُّه قد تأثر بما جاء بعد 11 سبتمبر من قرارات وسياسات وحروب، فإن المنطقة العربية والإسلامية كانت هي المتضرِّر الأكبر منها، لأنها كانت الساحة التي استهدفتها هذه القرارات والسياسات، وجرت على أرضها الحروب وما نتج عنها من دماء واضطرابات وصراعات، وهذا ما تجسَّد بشكل خاص في غزو أفغانستان في عام 2001، وغزو العراق في عام 2003، إضافة إلى الأطروحات الأميركية حول مستقبل الشرق الأوسط، وفي مقدِّمتها «دمقرطة» المنطقة، و«الفوضى الخلاقة» اللتان سوف أتطرَّق إليهما في جزء آتٍ من هذا المقال.

لقد أطلقت 11 سبتمبر الحرب العالمية ضد الإرهاب، لأنها لفتت نظر العالم إلى أنه خطر عالمي، وليس محلياً أو إقليمياً، وأن الجماعات الإرهابية تملك القدرة على الحركة والإيذاء أكثر بكثير ممَّا كان متوقعاً حتى من أعرق أجهزة المخابرات ومراكز التفكير والبحث على المستوى الدولي، وأن أيَّ دولة، مهما كانت قدراتها، بما في ذلك أكثرها قوة ونفوذاً، لا يمكنها أن تكون بعيدة عن خطره، أو محصَّنة ضد شروره. لقد كان الاعتقاد السائد في الغرب قبل هذه الأحداث أن الدول النامية، خاصة في الشرق الأوسط، هي وحدها التي يمكن أن تعاني الإرهاب لأسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية خاصة بها دون غيرها، لكن بعد هذه التفجيرات ثبت للجميع أنه ليس هناك أيُّ مجتمع يملك حصانة ضد الإرهاب، لأنه لا ينتج فقط عن ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية، وفق التفسير الغربيِّ المبتَسَر الذي ساد لفترة طويلة، وإنما عن فكر منحرف ومتعصِّب يقوم على توجهات خطِرة وعدائية تجاه العالم كله.

وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد اتخذت من تفجيرات 11 سبتمبر مناسبة لتأكيد هيمنتها وسطوتها وقيادتها الأحاديَّة للعالم، من خلال استخدامها المفرط للقوة العسكرية، ورفعها شعار «من ليس معنا، فهو ضدنا»، فإن هذه السياسة نفسها كانت البداية لتراجع القوة الأميركية في العالم، ومزاحمة قوى أخرى لها على هرم السلطة العالمي، خاصة مع التكلفة المالية الضخمة لحربي أفغانستان والعراق، التي أصابت الاقتصاد الأميركي بالإرهاق والضعف، والفشل الذي لاحَق السياسة الأميركية على الساحتين الأفغانية والعراقية، حتى إن الرئيس الأميركي باراك أوباما اضطرَّ، بعد وصوله إلى البيت الأبيض خلفاً لجورج بوش الابن في عام 2008، إلى التحرك نحو الانسحاب العسكري من البلدين على الرَّغم من عدم استقرار الأوضاع فيهما. ونتيجة لسياسات جورج بوش الابن، ومغامراته العسكرية بعد 11 سبتمبر، ظهرت نزعة أميركية انعزالية جسَّدها الرئيس أوباما بتقليل تدخُّل بلاده في الشؤون العالمية، ومبدأ القيادة الأميركية من الخلف، والامتناع عن إرسال قوات أميركية إلى الخارج إلا في أضيق الحدود، وهي نزعة تَظهَر كذلك، ولكن بشكل أكثر راديكالية، في توجهات دونالد ترامب، المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة في نوفمبر 2016.

إن أهمية أحداث 11 سبتمبر، وخطورتها، وموقعها ضمن أهم الأحداث التي غيَّرت التاريخ، لا تنبع من عدد ضحاياها، أو الجهات التي استهدفتها فقط، وإنما لأن تأثيراتها لم تكن وقتية، وإنما ممتدَّة، حيث لا تزال تداعياتها تتفاعل بعد مرور 15 عاماً على وقوعها، فلا تزال فصول الحرب على الإرهاب ومحطاتها تتوالى من دون أيِّ أفق لنهايتها، حيث انهار تنظيم القاعدة في أفغانستان، لكنه لم ينتهِ، وإنما تحول إلى تنظيمات متعدِّدة للقاعدة، وعدد كبير من الخلايا النائمة بطول المنطقة وعرضها، وتطورت الفكرة الإرهابية لتتحول إلى «داعش»، الذي أعلن «خلافة» و«دولة»، وضرب في قلب العالم الغربي، مثيراً الرعب والخوف والدمار. ولا تزال آثار التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق تتفاعل صراعاً ودماً وانقساماً، من دون أن يظهر في نهاية النفق ما يشير إلى استقرار أو تعايش أو توافق في البلدين. بل إن البداية الحقيقية لما تشهده المنطقة العربية من اضطرابات ليست في عام 2011، وإنما أبعد من ذلك بعشر سنين، وتحديداً عام 2001.

لقد كان عام 2011 هو العام الذي وصل فيه مسارٌ، بدأ منذ سنوات، إلى ذروته، وقام هذا المسار على رؤية أميركية ظهرت بعد 11 سبتمبر قوامها عنصران، الأول هو تفسير سطحيٌّ لسبب الإرهاب يقول إنه يعود إلى غياب الديمقراطية في المنطقة العربية، ومن ثم قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كوندوليزا رايس، مقولتها الشهيرة في الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 2005 «لقد سعت الولايات المتحدة الأميركية لمدة 60 عاماً من أجل تحقيق الاستقرار على حساب الديمقراطية في الشرق الأوسط، لكننا لم نحقق أياً منهما»، ومنذ ذلك التاريخ تفاعلت الأحداث، ولعبت جهات وقوى أميركية وغربية دوراً في تهيئة الظروف لانفجارات 2011 التي لم تحقق «التغيير»، ولم تبقِ على «الاستقرار». والعنصر الثاني هو الفوضى الخلاقة، التي تبنَّتها «رايس»، ودعت إليها بصفتها مدخلاً لتغيير المنطقة، والقضاء على أسباب الصراع والتطرُّف فيها بعد فترة من الاضطراب والصراع! وهذا ما تعيشه منطقتنا بالفعل منذ عام 2011.

إن كل الأحداث المأساوية التي مرَّت بالعالم، رغم قسوتها وخسائرها الكبيرة، قدَّمت دروساً مثلت المنطلق لتغييرات إيجابيَّة في تاريخ البشرية، فقد انتهت الحروب الدينية في أوروبا بصلح وستفاليا في عام 1648، الذي جرَّد الكنيسة من سلطاتها السياسية، وأقرَّ التسامح والتعايش بين المذاهب، وانتهت الحروب النابليونية بمعاهدة فيينا عام 1815، التي وضعت القواعد التي حكمت العلاقات الدولية حتى بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، التي انتهت بدورها إلى إنشاء عصبة الأمم، وانتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 إلى إنشاء منظمة الأمم المتحدة، فماذا عن تفجيرات 11 سبتمبر؟

لقد أتاحت «11 سبتمبر» فرصة للتضامن الإنساني العالمي ضد خطر مشترك هو الإرهاب، وإطلاق حرب عالمية حقيقيَّة عليه تعالج مصادره وأسبابه وجذوره، لكنَّ الذي حدث هو حرب ضد الإرهاب، اختلط فيها الأمن بالدين والسياسة، ولذلك لا تزال مستمرة، ولا يزال الإرهاب يتمدَّد من دون توقف. والذي حدث كذلك هو استغلال هذه الأحداث لإثارة العداء ضد الإسلام والمسلمين، وعدُّهم خطراً يهدِّد الحضارة الغربية، فبُذِرت بذرة الاحتقان بين الشعوب، وتحولت الأديان والمقدسات إلى ساحة للصراع وتصفية الحسابات سالت فيها، ولا تزال، دماء بريئة غزيرة.

لكنَّ هذا لا يعني أن كل ما نتج عن 11 سبتمبر سلبي، فقد كان ثمَّة ما هو إيجابي، وأهمُّه هو أن هذه الأحداث كشفت عن خطورة استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فقد استغلت المخابرات الأميركية مفهوم «الجهاد» لضرب الاتحاد السوفييتي السابق في أفغانستان، من خلال دعم «المجاهدين»، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، بالسلاح، وبعد انتهاء الحرب خرج المارد الإرهابي من قمقمه دون أن يستطيع أحد أن يسيطر عليه أو يوقفه، وصولاً إلى تفجيرات 11 سبتمبر، وكان هذا درساً قاسياً ومهماً في الوقت نفسه للعالم كلِّه.