توفيق السيف

 لا يبدو الرئيس الأميركي الجديد قادرًا على تنفيذ معظم الشعارات التي طرحها في الحملة الانتخابية، وتسببت في إثارة قلق العالم، بل وقلق شريحة واسعة من الأميركيين أنفسهم. إنجاز هذه الوعود يتوقف على اقتناع الطبقة العليا بالتخلي عن دورها الموجه للسياسة، والاكتفاء بدعم الرئيس. يعرض ترمب نفسه كزعيم للشعب وليس مجرد رئيس للحكومة. وفي حديثه الأول بعد القسم الدستوري، أعلن أن «الوقت قد حان كي تنتقل السلطة من واشنطن إلى الشعب». بالنسبة للنخب القوية، فهذا الكلام يعني أن يتخلى الجميع عن نفوذهم أو يسخروه لخدمة الرئيس.


في حقيقة الأمر، لا يملك دونالد ترمب ما يكفي من القوة السياسية أو الصلاحيات الدستورية، لتجريد النخبة من نفوذها، أو الحيلولة دون ممارستها دورًا قد يكون معاكسًا لشعاراته. النظام الرئاسي في الولايات المتحدة يمنح الرئيس صلاحيات واسعة نسبيًا، إلا أنه في نهاية المطاف مضطر - دستوريًا - إلى إرضاء الكونغرس وحكام الولايات، ومضطر - سياسيًا - إلى إرضاء الصحافة وقطاع الأعمال، فضلاً عن الاتحادات المهنية وجماعات المصالح. ونعلم أنه لم يأتِ من الوسط السياسي كي يكون حليفًا للقوى النافذة فيه، كما لم يتبادل الود مع الشركات الكبرى والصحافة، كي يضمن دعمهما. إلى ذلك، فإن الوسط الأكاديمي - وهو مصدر مهم لتغذية الرأي العام والصحافة - تغلب عليه الميول الديمقراطية (واليسارية إلى حد ما) مما يضعه دائمًا على الطرف المقابل لمعظم الرؤساء ذوي الاتجاهات المحافظة واليمينية مثل ترمب.
التظاهرة النسائية يوم أداء القسم، تقدم صورة أولية عن المعارضة التي سيواجهها ترمب في الشارع. كانت شرطة العاصمة تتوقع نحو 200 ألف متظاهر. لكن تقديراتها النهائية تضع العدد فوق نصف المليون. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» تقديرات لخبير بريطاني في إدارة الحشود، تضع الرقم في حدود 470 ألفًا، مقارنة بنحو 160 ألفًا شاركوا في حفل تنصيب ترمب. واعتمد الخبير على دراسة للصور الجوية للمواقع التي شهدت هذين التجمعين.
سواء أخذنا بهذه المعطيات، أو بالانطباع العام الذي تولده أحاديث ترمب، حول إلغاء نظام الرعاية الصحية الذي أقر في عهد أوباما، وحول نيته تشديد القيود على الهجرة، وبشكل عام، موقفه الذي يبدو منحازًا إلى ما يعتبره البعض «أميركا الأصيلة»، أي المنتمين إلى العرق الأبيض الذين يتبعون الكنيسة الإنجيلية، فالمؤكد أن أكثر من نصف الأميركيين، سيجدون أنفسهم في الجبهة الأخرى التي لا تثق بتمثيل الرئيس لمصالحها واهتماماتها.
هذا يؤكد ما ذهبت إليه مجلة «تايم» الشهيرة في ديسمبر (كانون الأول)، حين وصفت دونالد ترمب برئيس الولايات «المنقسمة» الأميركية.
لا أتصور أن المجتمع السياسي الأميركي سيسلم بسهولة لرئيس يرمز للانقسام أو يعمق الانقسام. ولهذا فليس مستبعدًا أن تعمل المؤسسة السياسية (في معناها الموسع) ضد توجهاته. بل قد يجد الكونغرس في لعب دور كهذا فرصة لتأكيد دوره المحوري في صناعة السياسة، في مواجهة رئيس يسعى ضمنيًا إلى إضعاف دور النخبة، تحت شعارات لا تتوافق مع التقاليد الراسخة في واشنطن.
أظن أن ترمب سيتحول - ربما بعد بضعة أشهر - إلى نموذج لسياسي كثير الكلام، عاجز عن الفعل. حين ينتهي الاحتفال ويبدأ العمل الفعلي، فإن السياسيين المحترفين سيشرعون أيضًا في نسج المكائد لاجتذاب الأسد الهائج إلى شباكهم، حتى يتحول من ملك الغابة إلى ما يشبه أسدًا في حديقة.