عبدالله فدعق

الخلط المغلوط بين مسائل الفروع الفقهية، ومسائل العقيدة، جر الناس إلى تبديع، وتضليل، وتكفير بعضهم بعضا، حتى حكموا على الفقه بالتأخر عن مواكبة الحياة

موضوع الدراسات الفقهية، كان متعلقا بالأمور الدينية بوجه عام، وكان هذا هو سعي الفقهاء أجمعين؛ قبل قيامهم بتأسيس مدارسهم ومذاهبهم، ومع تكامل تطور البناء، استقلت الأحكام المتعلقة بالعقائد والإيمان عن الفقه، وصار اسمها: علم التوحيد أو أصول الدين أو العقيدة، وصارت مواضيع دراسة الفقه، مختصة بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة، أما ما كان متعلقا بالعقيدة، فقد أصبح مستقلا بنفسه..
الأحكام الضرورية، مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كفرض الزكاة، وتحريم قتل الأنفس المعصومة، وغيرهما، مما ثبت بدليل قطعي لا يحتمل التأويل؛ لا تدخل في مواضيع الفقه، من حيث إنه لا مجال للاجتهاد في حكم معلوم بالضرورة، ولا حاجة للاجتهاد من أجل الحصول على العلم بوجوب الزكاة، وحرمة الاعتداء، وهذه المسائل من هذه الحيثية ليست عقائدية، وخلطها مع بعضها لا يليق؛ فالطواف مثلا بالمقابر باب من أبواب الفقه، وفاعله ـ عندي ـ مرتكب لأمر محرم شرعا، ومع ذلك فليس هذا من أبواب العقيدة، ولو كان كذلك لقلنا بكفر الطائف بالقبر، وشركه بربه.. 
من أمثلة عدم الخلط في المسائل، ما ذكره الحافظ الذهبي، وهو المصنف من العلماء المغالين في انتقاد المخالفين، إذ يقول في كتابه الشهير (سير أعلام النبلاء)، في الصفحة 485، من الجزء 4 "من زاره، صلوات الله عليه، وأساء أدب الزيارة، أو سجد للقبر، أو فعل ما لا يشرع، فهذا فعل حسنا وسيئا؛ فيعلم برفق، والله غفور رحيم، فو الله ما يحصل الانزعاج لمسلم، والصياح، وتقبيل الجدران، وكثرة البكاء، إلا وهو محب لله ولرسوله؛ فحبه المعيار، والفارق بين أهل الجنة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل القرب..".
بوضوح أقول إن منهج دراسة العقيدة في زماننا ترك أثره في منهج الاجتهاد، فالميل إلى الظاهر، والالتزام الصارم، والوقوف عند حدود الألفاظ، والمعاملة بالظاهر، والحكم على النوايا، دون النظر إلى سياق النصوص، والدلالات المهمة منها، أفرز نزعة ظاهرية في تناول قضايا الناس المعاصرة، إضافة إلى ذلك النظرة الدونية للفقه المذهبي، وهذه وتلك أثرتا كثيراً في تربية الملكة الفقهية عند فقهاء اليوم، وأضعفت قدرتهم على تخريج المسائل، وإلحاق الفروع بالأصول، وجعلتهم يلجؤون إلى ما يؤمنون به أنفسهم ـ بتشديد الميم ـ وللأسف كان الملجأ الذي اعتمدوا عليه هو منطقة التحريم، واعتبروا ذلك أكثر راحة لهم من مشقة الاجتهاد، رغم تغير الزمان، وتبدل المكان، وبشكل أكثر وضوحا أقول إن الخلط المغلوط بين مسائل الفروع الفقهية، ومسائل العقيدة، جر الناس إلى تبديع، وتضليل، وتكفير بعضهم بعضا، حتى حكموا على الفقه بالتأخر عن مواكبة الحياة.