توفيق السيف
السجال الذي شهدته السعودية قبل وبعد قرار السماح للنساء بقيادة السيارات، يؤكد حاجتنا لحسم سؤال، أظنه أكثر الأسئلة أهمية في الجدل الطويل حول دور الدين في المجال العام.
يمكن صياغة السؤال على النحو التالي: هل يريد المسلمون تثبيت الأعراف والقيم الاجتماعية التي ورثناها، أم يعتبرونها واقعاً قائماً، لا ينكرونه؛ لكنهم يسعون لإصلاحه، أو ربما لتغييره إلى مستوى أرقى وأقرب للقيم العليا؟
يحتمل السؤال جواباً من اثنين، يعبر كل منهما عن رؤية أوسع في فلسفة الدين وأغراضه. وهما رؤيتان متعارضتان لا يمكن الجمع بينهما. تنظر الرؤية الأولى إلى الدين كقوة تواصل روحي - قيمي مع الماضي، ومن هنا فهو يهتم بتثبيت وترسيخ الواقع الاجتماعي الموروث، بما فيه من قيم وأعراف وعلائق، وتسليمه كاملاً إلى الأجيال التالية.
أما الرؤية الثانية فترى في الدين قوة تغيير، يتبنى في الأساس نماذج قيمية وسلوكية رفيعة؛ لكنه لا يفرضها على الناس قبل أن يصبحوا جاهزين لتطبيق مقتضياتها. ومن هنا فهو يتعامل مع الوقائع والقيم والأعراف والنظم الاجتماعية القائمة، باعتبارها ظروفاً تاريخية، ويلقي عليها قيمة مؤقتة أو انتقالية؛ لكنه في الوقت نفسه يدعو المجتمع لتجاوزها إلى الظرف الأعلى، أي الأقرب للمثال والنموذج.
المثال المناسب للجدل السابق الذكر هو مبدأ المساواة، وهو جوهر قيمة العدالة، التي نعلم أن الرسالات السماوية نزلت من أجل إقامتها وإقرارها أساساً للحياة والتعامل بين الناس. الحوادث والسجالات التي شهدناها في السنوات الأخيرة، تؤكد أن مبدأ المساواة ليس راسخاً في ثقافة المجتمعات المسلمة ولا سيما العربية. التفاوت في الحقوق والمكانة بين الرجل والمرأة هو أحد الأمثلة. وثمة أمثلة كثيرة من قصة تكافؤ النسب بين القبائل، إلى عدم المساواة بين أتباع الأديان وما إلى ذلك، إلى التمييز العرقي والعنصري. ولكل من هذه شواهد وتطبيقات كثيرة في المجتمع، وبعضها مدعوم بأعراف اجتماعية أو حتى آراء فقهية.
الأخذ بالجواب الأول، أي القول بأن الدين قوة تواصل وتثبيت للواقع، يعني اعتبار الحالة القائمة سليمة ومشروعة. وهذا يستدعي بالضرورة القول بأن الدين - وفقاً لهذا الطرح - ضد مبدأ المساواة، أو أن لديه مفهوماً للمساواة يخالف ما نعرفه من أن بني آدم جميعاً سواسية في القيمة والمكانة والحقوق.
أما الأخذ بالجواب الثاني، أي اعتبار الدين قوة تغيير للواقع، فهو يعني أن الظرف القائم أمامنا مؤقت، وأن السعي لتغييره هو الأصل الصحيح، وهو الأقرب إلى روح الدين. وفحوى هذا الخيار أن وضع المرأة في مجتمعنا لا يزال دون الصورة المثلى التي يريدها الدين. ولذا فإن السعي لتغييرها باتجاه نموذج المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات، هو العمل الأقرب إلى مرادات الشريعة وأهدافها.
من المناسب هنا الإشارة إلى أن سرّ نهضة أوروبا يكمن في تخلي المفكرين منذ القرن السابع عشر عن النظريات السكونية، سيما نظرية أرسطو حول النظام الطبيعي، وفحواها أن النظام الكوني هو النموذج الأمثل لتنظيم وإدارة المجتمع. تخلى الأوروبيون عن هذه الرؤية إلى أخرى جديدة، فحواها أن النظام الاجتماعي ليس وضعية سكونية أو نهائية، بل هو نتاج لفعل البشر وتعبير عن مستواهم الثقافي وحاجاتهم في زمن محدد، ولهذا يستطيعون تغييره بما يستجيب لتحديات مستقبلهم ويتلاءم مع القيم العليا.
لو سألت عامة المسلمين عن الرؤية التي يعتقدونها أليق بروح الدين الحنيف، فهل سيختارون الأولى؟
التعليقات