عبدالله بشارة

 قرأت مذكرات الوزير المصري السابق عمرو موسى باهتمام، لأني شاهدت معظم معاركه في الأمم المتحدة وعدم الانحياز والمؤتمرات الاسلامية، وسعدت لأنه كان صريحاً ومنصفاً.. وصف عبدالناصر برجل حزم وضبط بخطوات لا يحسب نتائجها بإدارة ينقصها التنظيم، والسادات رجل حمل مشروع عودة سيناء، فأعادها حرباً ومفاوضاً، وحسني مبارك بحذره وحفاظه على مصر بلا حروب.
شاهدته يترأس كتيبة الفرسان المصرية ضد دول الضد، يستغل كل مفردات ترسانته في التصدي لتطاول الرافضين، سوريا، ليبيا، العراق، اليمن وفلسطين، ويشحن بطاريات المقاومة من صف مؤهل من الدبلوماسيين، ويتجاوز كل الخطوط ليسكت المعارضين المخربين.
كنا وفد الكويت نتابع ونقدر ظروف السادات ونتفهم دوافعه لتخليص سيناء، ومن دونه لا أحد سيسترجعها، والسادات منحة تاريخية لمصر ليعيد ما أضاعه عبدالناصر فيموت شهيدا.
كنت معه في مؤتمر السلام في مدريد ممثلا لمجلس التعاون، وألقى كلمة مضادة مشحونة بكل عناصر المواجهة، وكلمة ثانية دشن فيها «نحن العرب» في مغازلة سياسية وعاطفية واحتار فيه الجميع، العرب وأميركا واسرائيل.
يوظف مؤهلات الآخرين بحرفية، في مدريد كان معه وفد مؤهل، من بينهم لطفي الخولي الذي شدني بقوة عندما تعرّف عليّ لخروجي عن إطار أيديولوجيته.
أجاد موسى في مدريد، حمل ثقل المآسي الفلسطينية معه في الحوارات، بلغة نارية لا يستنسبها المزاج السياسي الرسمي في القاهرة، فلا غرابة بتعثرها بعد سنوات كلها تحديات وتوترات، ومواجهات وشحنات من التصلب، فيها القاسي من التعبيرات وفيها البحث عن كارتات تحسن مواقفها، وفيها نجاحات وفيها توافق مع الفضائيات، عارضه الاسرائيليون، وشكك فيه الأميركيون وأحبه المصريون، وأستغرب شخصياً بقاءه عشر سنوات خارج السرب الرسمي متحدثاً ومحلقاً، لم يهتم بحساسية مصر الرسمية مع الولايات المتحدة، ومشى في إطار كامب ديفيد لكنه لم يكن طرفاً فيه، لذلك أزعج مبارك، والمؤسف أن جهده الواسع والغزير، نجح في ترطيب العلاقات مع الفلسطينيين إلا أنه لم يصل إلى اتفاق مع اسرائيل حولهم يضيف للشعب الفلسطيني شيئاً حقيقيا، كان ثورياً في الألفاظ، براغماتيا في الأهداف، لم يحقق عبوراً نحو الآمال، لكنه رغم تشدده لم يتجاوز في مسيرته جوهر الاتفاقيات، لا مع واشنطن ولا مع اسرائيل.
ذكر مشهدين شدا انتباهي، الأول: التحضير في بغداد للقمة العربية في مايو 1990، وتصدي طارق عزيز لمقترحات مصر نحو مشكلة فلسطين، يرد طارق عزيز بأن عهد قرارات الأمم المتحدة انتهى والعراق بنجاحه في حربه مع إيران يشكل قوة يوظفها للتحرير.
لم تفت على موسى هذه البهرجة، فتوقع شيئاً غير مألوف من بغداد، وحدث الغزو، فأظهر موسى مخزون الفروسية لينضم لمصلحة الكويت محارباً، والواقعة الثانية: اعلان دمشق بعد تحرير الكويت، ويتهم واشنطن بابعاد سوريا ومصر، وهنا أخفق راداره في رصد الحس الأمني الخليجي المرتكز على عالمية الأمن الخليجي وارتباطه بالاستقرار والازدهار الكوني، ليس عربياً ولا اقليميا وإنما كوكبيا.
كما أنه أخفق أيضا في تأكيداته لما يسمى الأمن القومي العربي الذي كان عنواناً للجامعة العربية، فانتهى كل البناء الاستراتيجي في العلاقات العربية مع الغزو، وتنكر عشر دول عربية لمبادئ الميثاق، فيسعى جهاز الأمانة للجامعة إلى السير على الدروب القديمة بلا اهتمام بأن الغزو بدل الكثير، ويبقى العراق بنظامه الغادر في مداولات الجامعة يتحدث عن المبادئ وعلو القيم، مما أدى إلى اضمحلال هيبة الجامعة وتصغير مقامها المعنوي.
أذكر أنني سألته عن شرعية بقاء العراق في الجامعة، فرد بأن الوقت لم يعد مناسباً..
دشن عمرو موسى نهجاً جيدا في أصول المذكرات، في تقديمه تحليلا عن شخصيات عمل معها، رؤساء وزارات، ووزراء وسفراء ومعاونين، وكان منصفاً موضوعياً خاصة في صفحاته عن حسني مبارك، واصراره على النظام الليبرالي الديموقراطي لعلاج مصر وأورامها وسيادة القانون وحق الكفاءة، في نظرة عصرية تعيد لمصر وقارها التاريخي..
أأسف لشيء واحد كان موسى مدركاً له، كانت فترة التسعينات أفضل أوقات تحسين الوضع الفلسطيني، مع بوش ومع كلينتون ومع حسني مبارك ووزيره عمرو موسى، وفريق جيد، لكن الفرصة تاهت بسبب عجز الأطراف عن خلق بيئة سلام فيها مفاوضات تسعى للحل الوسط، استغلت اسرائيل الوقت لترسيخ الاحتلال وابتلاع الأراضي، لم تعبأ بالهرولة التي استهجنها موسى في خطابه في الأردن.
لم نشعر نحن بالأبواب المكتظة بالزحمة نحو اسرائيل، كنا نتابع بأمل محدود، وبرزت معايير فرضت نفسها تطرق لها موسى بشيء من القلق، أبرزها الشرق الأوسطية التي ينسبها إلى السياسي الاسرائيلي بيريز، وحاربها موسى بعنف متصوراً تأثيرها السلبي في الدبلوماسية المصرية وخوفها من تسلل الآخرين إلى الفضاء العربي.
لكنه أيضاً يدرك دور الجغرافيا في رسم سياسات الدول.
نصح القراء بفضيلة جماعية العمل Team work، التي نظمها في الخارجية المصرية ولم يجدها في بعض سفرائه، لكنها تسيدت أولويات عمله، وفي انتظار الجزء الثاني حول الجامعة العربية المحتاجة إلى تبديل في المفاهيم السياسية المتوارثة.
كتب عمرو موسى كتاباً شيقاً عن تجربة شخصية خرجت على الخناق الضيق الرسمي، فله التقدير والشكر..