سعود بن عبد الله العماري

 في مقالة سابقة لي، نُشرت في جريدة «الشرق الأوسط»، يوم الاثنين؛ 20 من ذي الحجة 1438هـ، الموافق 11 سبتمبر (أيلول) 2017، تحت عنوان: «قطر (أم الشكاوى) أمام منظمة التجارة العالمية مجدداً»، تحدثت، بصورة معمقة، عن موضوع شكوى قطر التي رفعتها إلى منظمة التجارة العالمية، ضد دول المقاطعة الخليجية الثلاث، وعن مدى إمكان قبول أو رفض منظمة التجارة العالمية الشكوى القطرية القائمة على مزاعم عارية تماماً من الصحة ومن أي سند قانوني سليم. وتطرقت، كذلك، إلى صحة المواقف ومشروعيتها التي تبنتها دول المقاطعة ضد قطر، واتساقها مع اتفاقيات منظمة التجارة العالمية ومع أحكام وقواعد القانون الدولي الراسخة، كما أشرت، في تلك المقالة، للشكوى الأخرى التي تقدمت بها قطر إلى المنظمة الدولية للطيران المدني، والتي جاءت نتائجها، كما كان متوقعاً، مُخيبة لآمال القيادة القطرية وعصابة مُستشاريها.


وفي مقالته المنشورة في هذه الصحيفة في 16 محرم 1439هـ، الموافق 6 أكتوبر (تشرين الأول) 2017؛ بعنوان: «لماذا اختارت قطر التحدي؟» أشار الأستاذ عبد الرحمن الراشد، ضمن نقاطٍ أُخرى، إلى قيام قطر بدعم القائمين على القانون الأميركي المسمى «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب» أو «جاستا» اختصاراً، الذي أقرته الولايات المتحدة العام الماضي.
لهذا، رأيت أن أتناول في مقالتي هذه، موضوع «أم الشكاوى» قطر، من زاوية مختلفة، وهي إمكان تعرّض قطر، نفسها، للشكوى والمُساءلة والمحاكمة، في إطار قانون «جاستا»، بسبب ربما توجيه الاتهام إليها في هجمات الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001.
وفي البداية، أود أن أوضح للقارئ الكريم أن قانون «جاستا» يسمح للأفراد الأميركيين، والمؤسسات الأميركية، من ضحايا أو ذوي ضحايا الهجمات الإرهابية، التي تحدث داخل الولايات المتحدةK أو خارجها، ويتعرَّض بسببها مواطنون أميركيون، لإصابات أو حالات وفاة، أو أي أضرار أخرى، بمقاضاة الدول الأجنبية، التي يدّعون ضلوعها أو تورطها في أي شكل من الأشكال بدعم أو تنفيذ هذه العمليات الإرهابية، أمام المحاكم الأميركية، ومن ثم توقيع العقوبات على هذه الدول أو مسؤوليها، والقيام بالحجز والتنفيذ على أصول وودائع وأرصدة الدول الموجودة لديها، بسبب تورطها في دعم ومساندة الخلايا والمنظمات الإرهابية.
وهنا، لا بدّ لي من أن أُشير إلى نُقطة في غاية الأهمية تتعلق بقانون «جاستا»، وتوضّح السبب وراء دعم قطر المفاجئ له وللمستفيدين منه، وهي أن مجموعاتٍ من جماعات الضغط السياسي وذوي المصالح الخاصة، كشركات التأمين والمحاماة وغيرها، وقفت وراء صياغة هذا القانون وإقراره بالطريقة المسرحية الغريبة التي حدث هذا بها، لأنها كانت تستهدف السعودية أساساً، وتزعم ارتباطها بأحداث الحادي عشر من سبتمبر.
ومن هنا جاء اندفاع القيادة القطرية المراوغ، لدعم المستفيدين من هذا القانون، نكاية بالمملكة العربية السعودية، وليس حُباً في العدل والإنصاف كما قد يتوهم البعض. وقد غاب عن هذه القيادة، التي لا تكتفي بجهلها؛ بل تسترشد بمستشارين أشد منها جهلاً، أنه، على الرغم من محاولات المنتفعين والمأجورين والمرتزقة وأصحاب المصالح، فإن ساحة المملكة العربية السعودية قد بُرِّئت، تماماً، من كل التهم التي تتعلق بالإرهاب عموماً، وما يتعلق منها بأحداث الحادي عشر من سبتمبر على وجه الخصوص، وذلك بعد قيام لجنة رفيعة المستوى؛ مكونة من الكونغرس الأميركي وفطاحلة القانون في الولايات المتحدة، بإجراء دراسة تحقيقية استمرت أكثر من سنة، لدراسة هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ومعرفة من يقف وراءها، ثم أصدرت، في نهاية عملها، تقريراً، مكوناً من 832 صفحة، أكّدت فيه أنها لم تجد أي علاقة تربط بين حكومة المملكة، أو أحد مسؤوليها، وبين تلك الهجمات المؤسفة أو منفذيها، لا من قريب ولا من بعيد، كما زعم المغرضون.
ومن جانب آخر، يتعلق بالموضوع ذاته، صرح مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي إيه) جون برينان، قائلاً: «اللجنة المعنية، المكلفة جمع البيانات، توصلت إلى نتائج دامغة تفيد بعدم وجود أدلة على أن الحكومة السعودية أو أحد ممثليها الرسميين قدموا أي مساعدات مالية لتنظيم القاعدة. أما بخصوص السعوديين المتهمين في هذه الأحداث، فلا يوجد دليل يدينهم، أو يثبت تورطهم، والتحقيقات معهم لم تسفر عن وجود أي أدلة مادية تدين أحداً منهم».
أما المملكة وقيادتها الرشيدة، فقد أثبتت للعالم أجمع، عملياً وبشكلٍ مُستمر، أنها في مقدمة الدول المكافحة للإرهاب، وأنها ترفض وتنبذ جميع أشكال الإرهاب والعنف والتطرف. كما أنها لم تكن، في يومٍ من الأيام، تخشى التهديدات التي يطلقها بعض المرتزقة والمأجورين، المدعومين من النظام القطري أو من غيره، بل سوف تتصدى لأي ادعاءات كاذبة وباطلة تصدر عن أمثال هؤلاء في أي وقت.
أعود الآن إلى الحديث عن موضوع مقالتي الرئيسي، وهو وضع دولة قطر في مواجهة قانون «جاستا»؛ ولست هنا في وارد مناقشة صواب أو خطأ قانون «جاستا» الذي ينتهك ويخرق أحكام القانون الدولي الراسخة، المتعلقة بالحصانة السيادية للدول، فقد سبق لي أن بيّنت ذلك في مقالات عدة، نشرتُها في جريدتي «اليوم» و«الشرق الأوسط». وإنما أريد أن أتطرق إلى إمكان تعرُّض قطر، التي تقوم قيادتها، بكل اندفاع، بدعم ومساندة القائمين على قانون «جاستا» وأصحاب المصالح فيه، لرفع دعاوى قضائية ضدها وضد مسؤوليها، وفقاً لأحكام قانون «جاستا» نفسه، وذلك استناداً لثبوت ضلوعها في تقديم الدعم والتمويل لكثير من الخلايا والمنظمات الإرهابية، التي نفذت كثيراً من العمليات الإجرامية في كثير من البلدان، ومن بينها الولايات المتحدة، التي تعرضت لهجمات إرهابية؛ كان أبرزها، على الإطلاق، هجمات الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة، وتحديداً؛ استناداً إلى دورها في إيواء الإرهابي خالد شيخ محمد ودعمه وتهريبه، وهو الذي كان لاحقاً العقل المدبر لهجمات سبتمبر.
وعلى هذا؛ فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ينطبق قانون «جاستا» على قطر؟ 
في هذا الخصوص، أثبت واقع الحال، وكثير من التقارير والتحريات، أن قطر احتضنت، وتحتضن، بعض أخطر الإرهابيين، من خلايا وتنظيمات إرهابية متفرقة، من بينهم عددٌ من أكبر ممولي وداعمي جماعة الإخوان المسلمين، وتنظيم القاعدة... وغيرهم. وبعضهم يعيش، الآن، في قطر بمنتهى الحرية ودون أي قيود! وفيما أنكرت قطر وجود بعضهم على أرضها، ورفضت الإفصاح عن أي معلومات بشأنهم، كشفت تقارير صحافية مصورة كذب هذه الادعاءات؛ كما حدث فيما يتعلق باحتضان قطر وإيوائها المدعو موسى كوسا؛ الذراع الإرهابية والتعذيبية لمعمر القذافي! وكما حدث أيضاً مع الإرهابي خالد شيخ محمد، الذي أنكر النظام القطري وجوده على أراضي قطر، ثم رفض تسليمه إلى الولايات المتحدة، كما لم تتخذ قطر أي إجراءات قانونية ضده، فضلاً عن قيامها بتهريبه إلى أفغانستان دون اكتراث لطلب الولايات المتحدة بضرورة تسليمه إليها.
ولن أُثقل على القارئ الكريم بسرد المعلومات والأدلة والأسماء التي تكشف عن قيام قيادة قطر باحتضان وتمويل الجماعات الإرهابية، لأن كثيراً من هذه المعلومات بات معروفاً للجميع، رغم أن ما خفي كان أعظم، ولكنني هنا سأكتفي بالتأكيد على أنه قد بات واضحاً تورط النظام القطري، بشكل مباشر، في قضايا إرهابية كثيرة، لعل أهمها، ما دام الحديث عن قانون «جاستا»، أحداث الحادي عشر من سبتمبر. كما بات في حكم المؤكّد أن نرى قطر تمثل أمام القضاء الأميركي، بموجب قانون «جاستا»، للفصل في الدعاوى التي سوف تُرفع من قبل ذوي ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أو من قبل مواطنين أميركيين آخرين، بما في ذلك المؤسسات والشركات الأميركية، ممن تعرضوا لهجمات إرهابية داخل أو خارج الولايات المتحدة.
ويؤكد هذا الاحتمال ويدعمه نص الفقرة «6 - أ» من المادة الثانية من قانون «جاستا»، التي تضمنت النص على أن الأشخاص أو الجهات أو الدول التي تُسهم، أو تشارك، في تقديم دعم أو موارد، سواء بعلم أو بتصرف متهور، لأشخاص أو منظمات تشكل خطراً داهماً، وترتكب أعمالاً إرهابية، تهدد سلامة مواطني الولايات المتحدة، أو أمنها القومي، أو سياستها الخارجية، أو اقتصادها، يتوقع جلبهم للمثول أمام المحاكم الأميركية للرد على أسئلة حول تلك النشاطات.
ويتضح من هذه المادة أن قانون «جاستا» يعطي الحق للمواطنين الأميركيين، وللمؤسسات والشركات الأميركية، في مقاضاة أي دولة أجنبية في القضايا المتعلقة بالإرهاب، في المحاكم الأميركية. وبالتالي يمنح هذا القانون المحاكم الفيدرالية الحق في ممارسة الولاية القضائية على الدول ومسؤوليها، ومطالبة أي أشخاص، أو أي دولة، يتم اتهامهم بارتكاب مثل هذه الأفعال، المحرمة والمجرمة دولياً، ضد أي مواطن أميركي، أو مؤسسة أميركية، بالمثول أمام القضاء الأميركي.
كما أعطت المادة الثالثة، الحق، للأشخاص أو الجهات، التي تتعرض للضرر جراء هجمات إرهابية داخل الولايات المتحدة، في رفع قضايا مدنية ضد الأشخاص أو الجهات أو الدول التي يعتقدون، أو يعلمون، أو ثبت لهم، أنهم قدموا دعماً، أو شاركوا في تقديم دعم، أو موارد جوهرية، إلى أشخاص أو منظمات تُعد مسؤولة عن الأضرار التي لحقت بهم أو بذويهم.
وكذلك، أشارت المادة الرابعة، من قانون «جاستا»، إلى أن المسؤولية عن أي فعل من أفعال الإرهاب الدولي، الذي ترتكبه، أو تخطط له، أو تُقره، أي منظمة مصنفة على أنها منظمة إرهابية، ويترتب على أثره حدوث أضرارٍ؛ تثبت بحق أي شخص يُساعد، أو يُحرض، أو يقوم بتقديم مساعدة جوهرية، أو يتآمر مع الشخص الذي يرتكب ذلك الفعل من أفعال الإرهاب الدولي.
وبالتالي، يمكن، بموجب قانون «جاستا»، مساءلة الفرد، الذي يرتكب، أو يساعد، أو يحرِّض، أو يتآمر على ارتكاب فعل من أفعال الإرهاب الدولي ضد مواطني الولايات المتحدة، وهذا المبدأ ينطبق على المؤسسات والدول أيضاً.
ولتتحقق مسؤولية الدولة عن الأعمال الإرهابية، فتغدو بذلك غير محصنة أمام السلطة القضائية للمحاكم الأميركية، يجب ثبوت تورط الدولة في دعم الإرهاب، خصوصاً عندما يكون الفعل مبنياً على العلم والعمد وسبق التخطيط والترصّد، أو التصرف بتهور، بحيث يكون دعماً مباشراً للإرهاب والقائمين به.
جدير بالذكر أن قانون «جاستا» استثنى حالتي التقصير والإهمال، وأخرجهما من أسباب الوقوع تحت طائلة المساءلة والإدانة.
وهكذا، يرى القارئ الكريم، من الأحكام التي سردتها مما تضمنه قانون «جاستا»، أن هذه الأحكام تنطبق، في جلها، على الأفعال المتطرفة التي ارتكبها، ولا يزال يرتكبها، النظام القطري؛ والتي تجعل قطر عرضة للمثول، في أي وقت، أمام القضاء الأميركي، في أي دعاوى يمكن أن تُرفع ضدها. وسيكون موقف قطر، في مثل هذه الدعاوى، ضعيفاً وسيئاً جداً.
ولن يكون بإمكان القيادة القطرية، ومستشاريها، التمسك، في هذه الدعاوى، بحصانة قطر السيادية، أمام القضاء الأميركي، أو الدفع بعدم اختصاص المحاكم الأميركية بنظر أي دعاوى تُرفع ضدها، فيما يتعلق بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، أو غيرها مما قد تكشف الأيام والتحقيقات خفاياه. والسبب في هذا هو أن قانون «جاستا» هو، في حد ذاته، تعديلٌ يُلغي أو يحُدّ من الصلاحيات والحصانات الممنوحة في قانونٍ سابقٍ له، هو قانون حصانة الدول الأجنبية ذات السيادة؛ الذي أُقر في عام 1976، حيث ألغى «جاستا» الحصانات القانونية، التي كانت ممنوحة للدول ذات السيادة ومسؤوليها، وعدّهم خاضعين للولاية القضائية للمحاكم الأميركية، في حال كانت الدعوى المرفوعة ضدهم تتعلق بأعمال الإرهاب ضد الولايات المتحدة أو مواطنيها.
وهكذا، فإن قيادة قطر التائهة، والتي لا أشك في أنها كانت تبتسم بدهاء عندما أُقر قانون «جاستا» العام الماضي، لأنه كان موجهاً بالدرجة الأولى ضد المملكة، والتي بدأت مؤخراً في دعم ومساندة من يقفون وراء هذا القانون لغاية خرقاء في نفسها... هذه القيادة تقف الآن أمام احتمالٍ كبيرٍ لاستدعائها أمام القضاء الأميركي، في قضايا تعلم هي، قبل غيرها، أنها خاسرة، وخاسرة بشكل مؤلم ومُخزٍ، ولا أجد ما أقوله هنا لمثل هذه القيادة المراوغة إلا المثل الشعبي الذي يصدُق تماماً في حقّها: «خبزٍ خبزتيه... يا الرفلة كُليه»!