طيب تيزيني
حاولنا في المقالتين السابقتين أن نتبين الماضي في تحوله إلى تاريخ، وهذا التاريخ إلى تراث معيش في العصر الراهن. فالماضي يصلنا عبْر سياقين اثنين؛ تاريخ الماضي والتراث (أي تراث التاريخ المذكور). فنحن نجد ماضينا أمامنا ليس كما كان أثناء نشوئه وتأثيره في أسلافنا، أما هؤلاء فنصل إليهم ليس كما هم في الزمن الماضي المنصرم، وإنما عبر تأثيرهم في حركة تاريخنا إيجاباً وسلباً، أي في عملية تحول هذا التاريخ إلى موروث لنا في مرحلتنا نحن الراهنين أو بالأحرى في سياق تحول هذا الموروث إلى حاضر نعيش فيه ليس كما هو تماماً، وإنما مع تأثيراته في سابقينا، كما في كيفية تنزل هذا التاريخ ضمن حركة وصوله إلينا كموروث. إنها حركة مركبة يعيشها البشر بعجرهم وبجرهم.
في ذلك الحراك الوجودي المركّب يعيش البشر عبر أدواتهم المعرفية والأيديولوجية المُتاحة في عصرهم، ومن هنا نتبين ذلك الحراك مختلفاً من عصر إلى آخر وفق إمكانية التوصل إليه، بدقة أو بعشوائية، بالاستعانة بالعلوم والمناهج المتاحة. وفقاً لذلك، يجد المعاصرون أنفسهم في هذا الشاطئ أو ذاك، ونصل إلى الموروث الذي وصلنا وامتلكناه، بحيث نتعامل معه في ضوء الحاضر الذي نعيشه، من موقع التأثر والتأثير بكل الممكنات المتاحة. وهذا التنوع في إمكانات التأثر والتأثير يكتسب مراجعه في مجموع البنية المعيشة وتأثراتها وتأثيراتها.
ونود هنا التمعن في هذه المقدمة المنهجية للخروج بضوابط مناسبة لما نجده من رؤى متعددة، إلى ما نحن هنا بصدده، ففي الفكر العربي المعاصر عموماً، نجد أمامنا تحولاً تاريخياً وتراثياً من الطراز الذي يفرض علينا قراءة «جديدة» للنظم التي حوّلها أصحابها القائمون عليها إلى عالم من الخراب. وهنا، تعود مسألة التاريخ والتراث والراهن؛ كيف نبحث فيها؟ وما المناهج العلمية المناسبة لإنجاز ذلك؟ وها هنا تبرز المقولات المركزية التفكيكية التي تعلن أن كلاً منّا «يجب أن يضع نفسه كيانياً بمحاذاة الغرب»! لقد خرج شارل مالك اللبناني من قبره، لينظر إلينا نظرة شماتة، وليقول: أما نبهتكم إلى ذلك، أما طالبتكم بأنه «عليكم أن تضعوا أنفسكم كيانياً في حذاء الغرب».
نعم، لقد أعيد «تنظيم الوجود»، ربما لأن المعْنيين غير جديرين بما كان لفترة بين أيديهم، وبعد ذلك نبذوه ودخلوا في هاوية الاحتراب المميت! هل علينا أن نخضع لمن يواجهنا بقوله: أنتم لستم جديرين بأن تكونوا في رأس التاريخ، لقد انهارت الدولة الوطنية، وتصدّعت البلدان التي أعلن أصحابها أنهم «رأس منْ وُجد في التاريخ وفي التراث الذي ورثوه، فيما هم أنجزوه».
إن «لعبة الأمم» دخلت العالم العربي في «عصر العولمة» لتقوم على اقتسام العالم، مع أنماط من الطائفية الدينية والعرقية والمذهبية التي تُناط بها مهمة تفكيك العالم، وتسليمه لتجار الحروب. وأمام هذه الحالة أُقدِّم اقتراحاً لكل شرفاء وحكماء العرب يتمثل في إحياء «المؤتمر العربي الأول»، المنعقد عام 1913، وكان من الفاعلين فيه المجاهد العروبي عبدالحميد الزهراوي، إذ يبدو أننا لم نهمل قضايا الوطن العربي فحسب، بل سرْنا في طريق لم يعبأ بتلك القضايا فقط، بل كذلك في تغطية التراث العربي.
التعليقات