صالح القلاب

 في رسالته التي وجهها مسعود بارزاني يوم الأحد الماضي إلى برلمان «بلاده» وأعلن فيها أنه لن يكون رئيساً لإقليم كردستان – العراق، وأنه لن يستمر في هذا المنصب... وأنه «لم يقف معنا أحدٌ سوى جبالنا»، بدا الزعيم الكردي كأنه مصمم على تغيير اتجاهاته السابقة وعلى أساس أنَّ حسابات «الدولة» إنْ هي ليست خاطئة فإنه لم يحالفها النجاح، وأنه لا بد من العودة إلى حسابات «الجبال» والمقاومة، وحقيقة أن مثل هذا التحول الصعب فعلاً غير مضمون العواقب، وأنَّ مغادرة المدن التي غدت في ذروة ألقها وازدهارها والانتقال إلى الغابات والأودية قد يكون ممكناً كخيار ولكنه سيكون في غاية الصعوبة من الناحية الفعلية والعملية.

إنه لا شك في أن مسعود بارزاني، الذي قضى طفولته وريعان شبابه في القرى المختبئة في جبال كردستان، والذي رافق والده الملّا مصطفى في سنوات العذاب والكهوف والأودية، يعني أشياء كثيرة عندما يقول: «لم يقف معنا أحد سوى جبالنا»، والمقصود هنا هو الجبال الكردستانية كلها، ما منها في العراق وما منها في تركيا وما منها في إيران، وهذا تحذير يجب أن يأخذه المعنيون بعين الاعتبار، وعليهم أن يضعوا في حسبانهم أن العديد من حركات التحرر في هذا العالم الواسع كانت في الخنادق وأصبحت - كما يقال - في الفنادق، وأنها في لحظة اهتزاز للمعادلات الجديدة قد عادت إلى جبالها وخنادقها القديمة!

وهنا فإن ما يجب أن يدركه «المعنيون» هو أنَّ هذا القائد وأنَّ والده الملا مصطفى قبله هما من إنتاج الجبال الكردستانية ومن إنتاج الكهوف وليالي الزمهرير والثلوج، ليس في كردستان العراقية وحدها وإنما أيضاً في كردستان الإيرانية وكردستان التركية، وهذا من الممكن أن يتكرر في أي لحظة إذا بقيت الأمور تسير في هذا الاتجاه الصعب الذي تسير فيه الآن.
لقد كان مسعود بارزاني واضحاً في رسالته يوم الأحد الماضي، التي لم تكن في حقيقة الأمر موجهة إلى أعضاء برلمان الإقليم الكردي بقدر ما هي موجهة إلى من يعنيهم الأمر في هذه المنطقة كلها، عندما قال «مشدداً» إنه سيبقى مقاتلاً في قوات «البيشمركة» وإنه سيواصل العمل من أجل الحفاظ على المكاسب التي حققتها كردستان.

ربما أنَّ البعض يرى في هذا الذي قاله مسعود بارزاني في رسالته الآنفة الذكر بعض المبالغة، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن كلَّ شيء جائز، وأنه حتى الإنسان عندما يصبح ظهره إلى جدار أصمّ يلجأ إلى أكثر مما هو متخيَّل ومتوقَّع، والواضح أن هناك حتى من بين الكرد أنفسهم من يدفع هذا القائد الكردي دفعاً إلى ما يعتبرونه انتحاراً، وحيث إن مغادرة أربيل والصعود إلى الجبال والعودة بـ«البيشمركة» إلى ما قبل بدايات تسعينات القرن الماضي، عندما كانت تقاتل بأسلوب حرب العصابات: «اضرب واهرب»، ليست سهلة بعد فترة الاسترخاء الطويلة هذه.
إنه غير صحيح، وعلى الإطلاق، بل إنه تجنٍّ ظالم أن يصل الافتراء بالمعارضين لهذا الرجل إلى أن يصفوه بأنه مؤسس الحكم الذاتي في هذا الجزء من كردستان القومية «الكردية»، وأنه هو من هوى بهذا الحلم نتيجة مغامرة «الاستفتاء» الأخيرة الخطيرة، فالمعروف أن كفاح الشعوب يمر بمنعطفات متعددة، وأنَّ الصعود إنْ ليس في كل الأحيان ففي بعض الأحيان يتبعه نزول، فهذه هي سنن الحياة، والمعروف أن مثل هذا التوصيف قد أُطلق على العديد من القادة التاريخيين من قِبل مناوئيهم، وأن تشي غيفارا لم يسلم منه، وأن شارل ديغول كان قد تعرض له، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القائد الجزائري الكبير أحمد بن بيلا، وأيضاً إلى القائد الفلسطيني ياسر عرفات (أبو عمار).

نعم... ربما أخطأ مسعود بارزاني في حساباته التي ذهب على أساسها إلى خطوة «الاستفتاء» هذه، والمفترض أنه كان عليه قبل الإقدام على هذه الخطوة الخطيرة أن يستطلع الموقف الأميركي، وأن يجس نبض الدول الإقليمية كلها، وأن يدرك أن حسابات الحقل غير حسابات البيدر، وأن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي استعان به لمواجهة أكراد ديار بكر لن يتخلى عنه وفقط بل سيضع يده في أيدي الإيرانيين للقيام بكل هذا الحشد الذي قاموا به، ثم ولقد كان على هذا القائد الذي واجهته صعاب كثيرة خلال مسيرته التاريخية الطويلة أنْ يؤمِّن جبهته الداخلية قبل الذهاب إلى هذه الخطوة التي أشعرت طهران وأنقرة بالخطر، وبأن العدوى الاستقلالية والانقسامية ستنتقل إليهما إنْ لم تتحركا سريعاً وفي اللحظة المناسبة.
والسؤال هنا هو: هل يا ترى أنَّ هناك من شجّع مسعود بارزاني على الاستعجال بخطوة الاستفتاء هذه، وأن هناك من دفعه دفعاً إلى القيام بهذه الخطوة وفي هذا الوقت غير الملائم لتحجيمه والقضاء على الحلم الكردي وإبعاد التطلع الاستقلالي عن أكراد إيران وتركيا وبالتالي عن أكراد العراق ولسنوات طويلة؟!
إن كل شيء جائز، وإن سرّ هذه المسألة وبلا أدنى شك عند مسعود بارزاني وعند الطرف الآخر الذي هو إمّا إيران وإما تركيا وإما الولايات المتحدة وإما بعض أطراف الحكومة العراقية... وأيضاً إما روسيا... لمَ لا؟ فالأمم لها سياسات واستراتيجيات، ولعل مَن لعب هذه اللعبة له مصلحة في إسقاط هذا القائد الكردي... الرمز فعلاً، وله مصلحة في إحباط الحس القومي للأكراد العراقيين والأتراك والإيرانيين... والأيام قادمة... وإنَّ غداً لناظره قريب!

والمهم، وخلافاً لما يتوقعه كثيرون، فإنّ مما لا شك فيه أيضاً أن هذا «الزلزال» الذي ضرب كردستان العراقية قد أيقظ الوجدان القومي الكردي لدى أكراد تركيا ولدى أكراد إيران... وأيضاً لدى أكراد سوريا، والمؤكد أن هؤلاء جميعاً باتوا ينظرون إلى مسعود بارزاني كما كان أجدادهم وآباؤهم ينظرون إلى والده الملا مصطفى، أولاً بعد انهيار جمهورية مهاباد الكردية الإيرانية المعروفة، ثم بعد عودته من منفاه الشديد القسوة في الاتحاد السوفياتي، وأيضاً بعد اتفاقية الجزائر الشهيرة بين صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي في عام 1975.
ربما لا، بل المؤكد أن حسابات البيدر لن تتطابق مع حسابات الحقل بالنسبة إلى الذين ظنوا أن إفشال خطوة «الاستفتاء» هذه التي ترتبت عليها كل هذه التطورات التي أهمها ما حصل مع هذا القائد، ستعني غفوة طويلة للوجدان القومي الاستقلالي الكردي، وستعني غياباً بلا نهاية لما يعتبر مشكلة كردية. فالواضح، حتى حدود اليقين، أنَّ ربَّ ضارة نافعة، وأن هناك إرهاصات ومؤشرات واضحة على أن هذا الذي جرى سيُنعش الثورة في أفئدة الكرد في كل الدول التي يوجدون فيها، وأن هؤلاء يتحلقون حول مسعود بارزاني الذي ثَبَت، وكما كان أبو عمار يردد في الأوقات الصعبة والعصيبة «يا جبل ما يهزك ريح»، أنْ لا منافس له وأنْ لا قائد غيره في المدى المنظور.
الآن هناك ثورة كردية مسلحة في كردستان الإيرانية، وهناك استمرارية ضاغطة لعمليات حزب العمال الكردستاني – التركي الـ(PKK)، وهناك انتعاش كردي في سوريا بعد تحرير مدينة الرقة وبعد الإنجازات التي حققها تنظيم «سوريا الديمقراطية»، وهذا يعني أن مسعود بارزاني عندما قال في رسالة يوم الأحد الماضي: «لم يقف معنا إلا جبالنا» وأنه سيبقى مقاتلاً في قوات «البيشمركة» فإنه يعني ما يقول... والأيام قادمة وستحمل معها الكثير من المستجدات على هذا الصعيد وعلى غيره!