سليم نصار
منذ تحقيق مبادرة الوفاق الوطني التي جمعت فريق 14 آذار مع فريق 8 آذار، لم يعرف لبنان أزمة مقلقة بحجم الأزمة التي عصفت بأجوائه السياسية خلال هذا الأسبوع. وهي الأزمة التي فجّرتها استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري يوم السبت الماضي، والتي أخذت بعداً إقليمياً خطيراً فور انتقالها إلى لبنان عبر قناة «العربية» السعودية. كذلك اتسع حجم المسببات ليشمل إيران التي اتهمها الحريري بأنها صادرت القرار الحر من اللبنانيين بحيث أصبحت لها الكلمة العليا والقول الفصل في شؤون البلاد وشجونها.
ورأى كثيرون أن التمهيد لمسلسل الأحداث بدأ مع الزيارة التي قام بها للرياض رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس حزب الكتائب سامي الجميل. خصوصاً أنهما ركزا أثناء اجتماعهما بولي العهد الأمير محمد بن سلمان على تعداد الأساليب التي يستخدمها «حزب الله» من أجل خلق أمر واقع يخدم مصالح إيران ويسهل هيمنتها على مؤسسات الدولة.
إضافة إلى صورة الاحتقان السياسي التي رسمها جعجع والجميل، جاءت زيارة الحريري إلى الرياض لتكشف عن حقيقة النظرة المتعالية التي تتعامل بها طهران مع لبنان. وكان ذلك عبر لقائه مع مستشار المرشد الأعلى الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي. ففي ذلك اللقاء قال ولايتي إن إيران تحمي استقرار لبنان، وتدعم حكومته وتؤيد استقلاله. وقال أيضاً: «إن لبنان انتصر على الإرهاب، الأمر الذي تعتبره طهران انتصاراً لكل المنضمين إلى محور المقاومة في مواجهة الإرهاب الذي تدعمه الولايات المتحدة».
وقد أضاف فريق 14 آذار كلام ولايتي إلى التصريح الاستعلائي الذي أطلقه الرئيس حسن روحاني آخر الشهر الماضي. ومع أن روحاني يُصنَّف في خانة المعتدلين، إلا أنه عكس في كلمته دور الهيمنة الذي اتخذته إيران حيال المواجهة مع العالم العربي. قال: «لا يمكن في العراق وسورية ولبنان ودول الخليج ودول شمال أفريقيا القيام بأي خطوة مصيرية من دون موافقة إيران».
وكان روحاني بهذه الوصاية السياسية يجرّد الدول العربية من حرية القرار، ويجعلها رهينة لإرادة إيران ومصالحها القومية. لهذا قوبل تصريحه في حينه بحملة انتقاد عارمة شاركت في صنعها غالبية القوى المؤثرة في الدول العربية المعنية.
واللافت أن كل تلك المواقف الاستفزازية الصادرة عن مسؤولين إيرانيين لم تزعزع علاقة التعاون بين الرئيس ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري. أي العلاقة التي دشنها فريق 14 آذار بالتنسيق مع فريق 8 آذار، في 20 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2016.
ويؤكد المراقبون في بيروت أن سعد الحريري حمل معه من الرياض إلى جلسة مجلس الوزراء يوم الخميس الأسبق أفضل الانطباعات وأكثرها ارتياحاً. وقال في مستهل الجلسة: «إن الإخوة في السعودية يتفهمون وضعنا. وهو وضع يعكس الاطمئنان إلى موقفهم من لبنان».
بعد مرور يومين تقريباً، عاد سعد الحريري إلى الرياض ليدلي بتصريح مفاجئ يعلن فيه استقالته عبر قناة «العربية». وقد نقلت بيان الاستقالة محطة «المستقبل». وفيه يلخص الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ مثل هذا القرار... والتي وصفها بأنها شبيهة بالأجواء التي سادت لبنان قبل اغتيال والده.
وبعد أن امتدح أبناء الشعب اللبناني العظيم، هاجم إيران لأنها تطاولت على سلطة الدولة، وأنشأت دولة داخل الدولة. ثم اتهم «حزب الله» بالسعي إلى خطف لبنان من محيطه العربي والدولي بهدف خلق أمر واقع جديد بقوة السلاح. وفي آخر البيان، حذر الحريري من التدخل في شؤون الأمة العربية، وقال: «إنها ستقطع الأيادي التي تمتد إليها بالسوء... وإنها مستعدة للرد على إيران في البحرين واليمن وكل جزء من أجزاء أمتنا الغالية».
في تعليقه على بيان سعد الحريري، أطل السيد حسن نصرالله، الأمين العام «حزب الله»، عبر شاشات التلفزيون ليتحدث بصوت هادئ، عن انطباعاته على مضمون البيان، ويشكك في صدوره عن رئيس الحكومة. وقال إنه ينتظر عودته إلى بيروت ليستوضح منه الدافع الحقيقي الذي فرض عليه تغيير موقف لا ينسجم مع كلامه في مجلس الوزراء.
تباينت الاجتهادات في تفسير الدافع الحقيقي لاستدارة الحريري وإعلان خروجه من صف الانسجام. البعض عزا السبب إلى رفضه أي تطبيع أو تواصل مع نظام الأسد، بخلاف الرئيس ميشال عون وصهره وزير الخارجية جبران باسيل اللذين سارعا إلى تعيين سفير جديد في دمشق عوضاً عن الاكتفاء بقائم بالأعمال. أو عوضاً عن انتظار قرار الجامعة العربية التي طردت النظام السوري من صفوفها.
التفسير الثاني مرتبط بموعد الانتخابات النيابية المقبلة (ربيع 2018) وبأهمية تجديد نشاطه السياسي بغرض إحياء الكتلة النيابية التي أرسى والده دعائمها. وهذا يقتضي منه التفرغ الكامل، والانفصال عن خط التسوية الذي رسمه مع ميشال عون في عام 2016.
التفسير الثالث يشير إلى أهمية التوقيت الذي صدر فيه بيان الاستقالة... وإلى المكان الذي أعلنه منه. أي إلى الرياض التي أقلقها دخول إيران على خط النزاع مع حوثيي اليمن من طريق تزويدهم بصواريخ باليستية. وقد رصدت السعودية استخدام هذه الصواريخ لإلحاق الأذى بالمواطنين والمنشآت العامة منذ منتصف الشهر الماضي.
وكانت إيران قد عرضت صاروخاً باليستياً للمرة الأولى خلال إحياء الذكرى الـ38 لاقتحام السفارة الأميركية في طهران. وعرض المتظاهرون صاروخاً باليستياً أمام مبنى السفارة من طراز «قدر- أف» يبلغ مداه ألفي كيلومتر.
وألقى الجنرال حسين سلامي، نائب قائد «الحرس الثوري»، بهذه المناسبة كلمة جاء فيها: «يجب أن يقبل العالم أن القدرة التي تؤدي دوراً مهماً في المنطقة هي إيران. وهذا الدور ينطلق من شمال البحر الأحمر حتى الشرق الأوسط. وهو دور واضح لا يمكن إنكاره في سورية والعراق ولبنان». ومع أنه لم يشمل اليمن في قائمة الدول التي ذكرها، ولكن كميات الأسلحة التي تُرسَل من إيران إلى الحوثيين كافية لإثبات دورها. وكانت آخرها الصواريخ الباليستية التي تُطلق باتجاه المدن والمنشآت السعودية. وقد تزامن تفجير صاروخ باليستي خامس أطلِق من اليمن باتجاه مطار الرياض مع وجود سعد الحريري في العاصمة السعودية.
ويرى المحللون أن قرار الاستقالة من رئاسة الحكومة اللبنانية جاء متلازماً مع بيان قيادة تحالف الشرعية في اليمن، والذي يقضي بإغلاق المنافذ اليمنية موقتاً، الجوية منها والبحرية والبرية. مع الإشارة إلى استمرار دخول طواقم الإغاثة والمساعدات الإنسانية.
وفي المحصلة النهائية، يتبين مما تقدم أن الاتفاق الدولي والإقليمي الذي شاركت في بلورة عناصره دول عدة بينها: السعودية وإيران وروسيا والولايات المتحدة... هذا الاتفاق تعرض للتصدع بسبب ازدياد حدّة الخلاف بين الرياض وطهران. وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك الخلاف على الساحة اللبنانية.
لا شك في أن رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري سينتظران أطول مدة ممكنة على أمل أن تثمر الوساطات الدولية والعربية بحيث يقتنع سعد الحريري بضرورة التراجع عن قرار الاستقالة. ولكن مثل هذا القرار مرتبط بوقف تدخل إيران في الشأن اللبناني واليمني. علماً أن طهران زعمت على لسان بهرام قاسمي أن اليمن يتصرف في حربه في شكل مستقل.
وترى الرياض أن تزويد الحوثيين بصواريخ باليستية يعني أن إيران متورطة في المجابهة بطريقة غير مباشرة. مثلما يعني أن هذا التورط يسقط عن اليمن صفة الدولة المستقلة في قراراتها.
وفي هذا السياق، شنّ الرئيس الإيراني حسن روحاني هجوماً على المسؤولين السعوديين، اتهمهم فيه بإرغام سعد الحريري على إعلان استقالته من الرياض.
بقي أن نذكر أن الرئيس عون لم يعلن قبول الاستقالة كونها غير مستوفية الشروط القانونية. وتقول المادة 69 من الدستور «إن الحكومة تعتبر مستقيلة إذا استقال رئيسها».
وبسبب الغموض الذي رافق الاستقالة الشفهية عبر التلفزيون، فقد وقع اللبنانيون في بلبلة أعقد من بلبلة أهل بابل!
التعليقات