إيلي الحاج 

المقالة هذه عن زيارة البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي للمملكة العربية السعودية، “ثلاثية الأبعاد” لزوم الأسلوب، بكلمات كل من الدكتور رضوان السيّد والدكتور فارس سعَيد، ركني حركة “المبادرة الوطنية”، والكاتب.

هي خلاصات أحاديث متفرقة معهما في الرياض خلال المناسبة التاريخية. وفي الجو بين السعودية ولبنان عن الجو بينهما.
رضوان السيّد: عندما زار وزير الخارجية السعودي ثامر السبهان لبنان مرتين لم يكن يعرف الدكتور سعَيد ولم نلتقِ وإياه. المرة الثالثة حصل اللقاء ودعاه سعَيد إلى عشاء “مختلف” في منزله في الرابية، ليطلع على أفكار “وجدان المسيحيين” في لبنان من خلال أحبار الكنيسة المارونية. يمكن القول إنه كان عشاء تعارف، بل تبادل فكري ونفسي، في حضرة “الصلبان الكبيرة” مع المطارنة بولس مطر وميشال عون ويوسف بشارة، ورجال دين وسياسة ومال آخرين. عرض السبهان هموم بلاده وتحدياتها في ظل القيادة الجديدة، وشرح المطارنة والحضور توقعاتهم من المملكة لمساعدة لبنان. وكان مساءً ودياً.
اليوم التالي على ما أذكر، سألني الدكتور سعَيد رأيي في فكرة أن يزور البطريرك الماروني المملكة. سألني لأنني على علاقة وطيدة بالديوان الملكي، لا سيما في الشؤون المتعلقة بالأديان والتعامل معها. يقتضي الإقرار للتاريخ بأن زيارة البطريرك هي فكرة وإعداد وحوار وسيناريو وتنفيذ فارس سعيد. أنا ساعدت، وقمت بعملية “جَس نبض”، وكان الجواب، يا للمفاجأة، كل إيجابية وترحيب.
فارس سعَيد: كنت أفكّر في صديقي وأستاذي سمير فرنجية، رحل وهو يحلم بترسيخ فكرة لبنان أرض سلام وانفتاح والتقاء حضارات وثقافات في أذهان اللبنانيين جميعاً، وكان يردد أن على المسيحيين في هذه البلاد ألا يفكروا ويتصرفوا كأنهم جالية أجنبية أو أقلية خائفة تبحث عن ضمانات خارجية مشبوهة. ضمانهم القوي هو علاقتهم الجيدة بالمسلمين، باكتشاف المساحات المشتركة بينهم وبين المسلمين، وهي واسعة جداً. هناك نصوص في قرارات المجمع البطريركي الماروني قالت إننا والمسلمين أخوة ومسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ، يربطنا تاريخ مشترك وحاضر مشترك ومستقبل مشترك. من هذا المنطلق راودني سؤال: ماذا لو زار بطريرك الموارنة المملكة العربية السعودية، مهد الإسلام؟ أي وقع وأثر سيكونان لها في نفسيات الجماعات اللبنانية وروحانياتها وتفكيرها؟
رضوان السيّد: أبلغت الدكتور سعيد تأييد القيادة السعودية لفكرة الزيارة. على الأثر “جس نبض” بكركي وعاد بجواب إيجابي بل مرحب جداً. وسألني أن أسأل من سيوجه الدعوة الرسمية إلى البطريرك؟ وعدت بالجواب: وزارة الخارجية.
بلا طول سيرة ، شرح لي بإسهاب، على ما أذكر، أن البطريرك السابق الكاردينال نصرالله صفير كان يشترط أن يدعوه الرئيس السوري (الراحل) حافظ الأسد، كلما حشره النظام اللبناني السوري المشترك في التسعينيات في ضرورة زيارة دمشق، وكان الجواب السوري أن لا صفة رسمية تخوّل دعوته رسمياً من رئاسة الجمهورية. لم يكن صفير يرغب في لقاء الأسد إنما تخلص من الإحراج بهذه الطريقة. ومن دون مقارنة على الإطلاق بين دور سوريا- الأسد المدمر، ودور المملكة التي وقفت إلى جانب لبنان في كل أزماته وساعدته للشفاء من آلامه، سياسياً ومالياً وإنسانياً ومعنوياً. إنما، قال لي فارس: “ليت الدعوة تأتي من جلالة الملك. من الآن أحلم بوقع هذه الزيارة المُدوّي إذا تحققت بدعوة رسمية منه”.
كان رأيي أن علينا التأكد في بكركي، وبما لا يترك أي مجال للظروف والاحتمالات، من الرغبة في زيارة المملكة. فهذه مسألة دقيقة جداً. قلت لفارس لا تكفي عملية “جس النبض” التي أجريتها. بعد زيارة لبكركي عاد وأبلغني أنها أكثر من مرحبة. على هذا الأساس انطلقت في اتصالات سرعان ما انتهت بإبلاغي القرار، وفحواه : “ستكون الدعوة الرسمية من جلالة الملك”.
فارس سعيد: من الإنجازات التي ستحققها الزيارة التاريخية في رأيي، أن يكون لبنان مركزاً دائماً لحوار الأديان والحضارات، بالتعاون بين المملكة العربية السعودية والكنيسة اللبنانية. كنيستنا في الأساس، قبل أن يحمل رؤساء الجمهورية المتعاقبون فكرة مركز حوار الأديان، هي في ذاتها مركز دائم للقاء الروحي والوطني والإنساني. من ينسى أن البطريرك السابق صفير ابتكر “اللجنة الوطنية للحوار المسيحي – الإسلامي”؟ هذه اللجنة تحولت مع صفير والإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين قمة روحية مسيحية- إسلامية ذات لجنة متابعة، وكان لها دور إيجابي عند وقوع أي أزمة. زيارة البطريرك الراعي للسعودية تعيد التأكيد لمن يريد الكنيسة صوتاً للخائفين والباحثين عن منافع وضمانات مشبوهة، أنها كنيسة شجاعة، تقدمية ومعترف بأهميتها وقيمتها وحضورها من أعلى مرجعية في الإسلام . كان اختيارها هي بالتحديد لتحمل رسالة انفتاح السعودية اليوم على الآخر المختلف دينياً، والرغبة في السلام العالمي وتجاوز كل ما هو خوف من الإسلام أو المسيحية، لأنها كنيسة خبيرة في العيش المشترك، ولأنها الوحيدة أخضعت نفسها لمراجعة نقدية وخرجت بوثائق تقول إحداها إن الكنيسة المارونية “شهدت أبناءها يَقتلون ويُقتَلون ويتقاتلون”.
ينتهي السيّد وسعَيد ولا تنتهي الصور. أقواها في الرياض، اللقاء الأول للبطريرك مع أبناء الجالية اللبنانية في مقر السفارة. كان لقاء مؤثراً عبّر فيه لبنانيون من كل الطوائف والمناطق والجهات عن قلق لم يراودهم طوال إقاماتهم المديدة. ولا مرة نظرت إليهم تلك البلاد الكريمة نظرة شك أو حذر. ما يسمعونه ويشاهدونه من أخبار لبنان ومواقف أعلى المسؤولين فيه يشغل بالهم. أفرحتهم مظاهر الحفاوة بالبطريرك والتكريم، لكأنه ملك أو رئيس جمهورية. لمسوا أن “مجد لبنان أعطي له” في المملكة. لكن أيديهم على قلوبهم لأسباب أخرى قاهرة.