طلال صالح بنان

من طبيعة الظاهرة السياسية عنف حركتها. عنف الظاهرة السياسية يغلب في بيئة مجال حركتها الخارجية (النظام الدولي)، حيث تفتقر إلى محددات قسرية وقاهرة لاستئناس وأقلمة حركة الصراع السياسي العنيفة، كما هو الحال في مجال بيئتها الداخلية (الدولة).

مع ذلك حركة الصراع السياسي، على مستوى مسرح السياسة الدولية، ليست بالضرورة فوضوية أو عشوائية، كما قد يُعتقد. هناك: آليات وقيم، تحافظ على توازن النظام الدولي، وإن كان بصورة نسبية من نظام دولي وآخر: من حيث طبيعة وضعية توازنه بين قوى أطرافه.. ومدى فاعلية مؤسساته، ونظام القيم الذي يحكمه.

من أهم آليات توازن أي نظام دولي، بما يحدد توازنه.. أو يقدم محددات انهياره، ومن ثَمّ تحديد مصيره وجدارة قدرته على الاستمرار من عدمه: التحكم في حركة الصراع داخله، في بعدها العنيف (الحرب). الحرب، بهذه الوظيفية الإستراتيجية، متغيرٌ مهمٌ في تتابع نشوء وانهيار الأنظمة الدولية المتعاقبة، تساهم خارج منظور طبيعتها العنيفة، في تحسين مستوى فاعلية الأنظمة الدولية، في الحفاظ على استقرار أي نظام دولي وتوازنه، عن ذلك الذي سبقه. كل الأنظمة الدولية المتعاقبة الحديثة، منذ نهاية القرن الخامس عشر إلى اليوم، كانت تفصل بينها حروب كونية فاصلة، كان آخرها الحرب الكونية الثانية (1939 - 1945).

الحروب، إذن من أهم معالم الحياة لأي نظام دولي، مثل البراكين والزلازل، بالنسبة للأرض. للحروب، إذن: دور إيجابي، يعكس «ديالكتيكية» تطور الأنظمة الدولية المتعاقبة، تماماً: كما تعكس حركة الصراع السياسي العنيف، داخل الدول معالم تطورها وخصائص تقدمها، بإظهار قدرتها المتطورة نحو احتواء الحركة العنيفة للصراع السياسي، باتساع نطاق المشاركة السياسية، من خلال مؤسسات كفوءة وفعالة.

لكن الحروب ليست دائماً، لها هذا البعد التاريخي الإيجابي في تطور المجتمعات وإحداث الطفرات السلمية، نحو التوازن والاستقرار، من نظام دولي لآخر. ليس هناك في حركة الصراع السياسي أشد خطورة ومجازفة، من التلاعب بطبيعة الصراع السياسي العنيفة.. ومحاولة استحضارها والاستسلام لإغرائها. الحروب، بصفة عامة، تُعد أخطر.. وأكثر تكلفة، وأقل توقعاً في نتائجها، من أي أداة أخرى، أقل عنفاً، تكون متاحة لصانعي السياسة الخارجية. قرار الحرب يُعد من أخطر القرارات، التي يمكن أن يُقدِمَ عليها أي طرف دولي، حيث تتغلب عليه إغراءات خوض الحرب، على حساب تكلفتها الحقيقية.. ومدى دقة توقع نتائجها.

إذا كانت الحرب قرارا مكلفا وغير متوقعة نتائجها، فإن هناك بدائل لدى الدول في خدمة أهداف سياستها الخارجية، بتكلفة أقل.. وبعائد أكبر... بل وتوقعات أكثر دقة.. وأفضل اطمئناناً بنتائجها. إذا كانت الحرب بأدواتها العسكرية العنيفة تأتي في قمة هرم قوة أي طرف دولي الصلبة.. فإن الدبلوماسية تحتل قمة هرم قوة الدولة الناعمة. بل قد تتفوق الدبلوماسية على إنجاز اللجوء إلى خيار الحرب، في أحسن الأحوال: أن تنتهي الحرب عند الخطوط التي بدأت عندها.. أو الخروج بتسوية تحقق الهدف الاساسي لها.

لكن يظل هناك من يقول: أن الدبلوماسية ما هي إلا حالة من حالات الحرب وامتدادٌ لها، لكن بوسائل أقل عنفاً. الدبلوماسية، ليست في ما يمكن أن يظهر من طقوسها.. و«بروتوكولاتها».. ونعومة خطابها.. ورومانسية أجوائها، وأناقة رموزها، أنها سلمية في طبيعتها.. أو أنها ناعمة في ملمسها، أو أنها حالمة في توقعاتها. الدبلوماسية الفعالة والكفوءة، لا يمكن أن يكون باطنها، ببراءة ما يبدو عليه ظاهرها. الدبلوماسية الفعالة والكفوءة، لا يمكن أن تنجح، إلا من خلال إبراز مخالبها من خلال قفازها الحريري الناعم، الذي يخفي أيضاً قبضةً حديدية ضاغطةً قوية تستند إلى ساعدٍ متينٍ صلب، تجري فيه دماء قلبٍ جسورٍ.. واثق معتد بإرادته ومضائه.. واثقةٌ خطاه.. ثابتةٌ قدماه، رشيقةٌ حركته.

ميزة الدبلوماسية الفعالة، مقارنة بخيار الحرب، أنها أقرب لفهم الطبيعة البشرية المعلقة بين الخوف والرجاء. الدبلوماسية لا تتطلع إلى نصر حاسم، لا يمكن توقع حدوثه، بدرجة ثقة ما، بقدر ما تتمثل مطالبها، بتسويات معقولة، لا يمكن للخصم أن يرفضها، إلا بتكلفة باهظة عليه، قد لا يقدر عليها. دائماً في الدبلوماسية، هناك في الخلفية احتمال استخدام القوة الصلبة (الحرب).. أو التهديد بها. الدبلوماسية، غير الحرب، توفر مشروعاً للتسوية، ليس فقط يحفظ للخصم ماء وجهه، بل أكثر: مكافأة مجزية على تعاونه.

الدبلوماسية توفر في خيارها إمكانية إغراء الجزرة والتلويح بتهديد العصا، في آن. الدبلوماسية باختصار: لا تتطلع إلى حسم مكلف وغير أكيد، كما هو شأن الحرب.. إنما تسعى إلى تسوية سياسية ممكنة، بأكبر عائد ممكن.. وبأقل تكلفة محتملة... مع تصور أقرب لتوقع نتائجها.

مهما ظهر من تضاد بين خيار الحرب والدبلوماسية، إلا أنهما في حقيقة الأمر خياران متكاملان، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة، مع رجحان كفة الدبلوماسية، في عدم تجاهلها لخيار الحرب.. أو التهديد بشنها، بينما الحرب نادراً ما تفسح للدبلوماسية فرصة اختبار خيارها، إلا بعد فوات الأوان.