توفيق السيف
النقاش حول خط فاصل بين ما نعده موضوعاً دينياً وما نعده خارج الدين، يثير بالتأكيد بعض المخاوف. ثمة من ينظر لكل إشارة إلى «خارج الدين» كدعوة مستترة إلى العلمانية. ولذا؛ فقد يفيدنا أن نتعرض باختصار لمعنى الوصف الديني للأشياء.
حين تصف شيئاً بأنه «إسلامي» أو «ديني»، فأنت تشير على الأغلب إلى واحد من أربعة معان؛ أولها نسبة الموصوف إلى الدين بشكل مباشر، مثل وصف الصلاة بأنها «واجب ديني». المعنى الثاني يتعلق بالأفعال المكرسة للدين دون غيره، فهي متصلة بالدين بشكل غير مباشر، مثل المؤسسات الدعوية ومدارس العلم الشرعي. أما المعنى الثالث، فيشير فقط إلى التزام الموصوف بالمعايير الدينية، ويتعلق عادة بالأفعال التي لا تتصل مباشرة أو مداورة بالدين، لكنها تلتزم قواعده، مثل وصف قوانين الدولة بأنها «إسلامية»، ووصف التعاملات المالية الخالية من الفائدة المشروطة بـ«المعاملات الإسلامية». ويشير المعنى الرابع إلى الأشياء أو الأفعال القائمة ضمن المجال الديني، أو المنتمية ثقافياً أو موضوعياً إلى جماعة المسلمين، لكن من دون علاقة عضوية أو وظيفية بالدين، مثل وصفنا بعض أنماط العمارة بأنها «إسلامية»، ومثلها «المجتمع الإسلامي» و«التاريخ الإسلامي»... إلخ، فهذه المعاني تنسب الموصوف إلى البشر والفضاء الاجتماعي وليس المنظومة النظرية للدين.
الفارق بين المعاني الأربعة يكمن في طبيعة الوصف وما يترتب عليه من قيمة. واضح أن المعنى الأول يشير إلى قيمة ذاتية لاتصاله عضوياً بالدين. بينما يحمل الثاني والثالث قيمة مدّعاة من قبل أصحابهما، ولذا فهما مشروطان بمدى تحقيق تلك الأفعال للأغراض المضافة إلى المعنى الأول وليست جزءاً منه. أما المعنى الرابع فهو الأكثر شيوعاًً، وهو - كما سلف - مجرد وصف إجرائي لا يحمل قيمة محددة.
واضح عندي قول بعض القائلين بأن الدين شامل، لأنه يتدخل في كل شيء من خلال توجيهه سلوك البشر. وهذا يغطي كل مناحي الحياة دون استثناء. لكن هذه مغالطة واضحة من وجهة نظري الشخصية؛ فالسلوكيات الفاضلة مثلاً، لا تعد أفعالاً دينية ولا تتطلب معرفة بالدين ولا نية التقرب إلى الله، لأن الأخلاقيات تنتمي لمنظومة القيم العليا السابقة للدين، التي أجمع عليها عقلاء البشر في كل الأزمنة والأمصار، بيد أن الدين عززها، وقد أطلق عليها الأصوليون المسلمون اسم «المستقلات العقلية» الذي يشير إلى مصدرها البشري.
ليس من العسير أن تجد أنواعاً من الصفات والسلوكيات الفاضلة عند حتى الملحدين الذين لا يؤمنون بأي دين... صفات مثل الصدق في المعاملة، والإخلاص في العمل، والتضحية بالمال والجهد لإعانة الضعفاء. ومثله طلب العلم والإنفاق عليه، وعمارة الأرض، وصيانة البيئة الكونية. فهذه كلها من الفضائل التي يأمر بها العقل منفرداً، ويؤيدها الدين من باب تكميل مكارم الأخلاق.
المؤكد أن الدعوة إلى تمييز «داخل الدين» عن «خارج الدين» لا تخلو من لمسة علمانية، لكن غرضها ليس إقصاء الدين عن الحياة، بل تصحيح العلاقة بين الشرع والعقل، أو «الحكمة والشريعة»، بحسب تعبير الفيلسوف ابن رشد. تصحيح هذه العلاقة ضروري لتعزيز فاعلية الدين في مجاله، وتخفيف ما أثقله به بعض دعاته من كلف الأفعال التي تقع خارجاً عنه، لا سيما كلف النزاعات الأهلية وتأزمات الهوية. وهو ضروري لتحرير عقل المسلم من قلق الهوية والحدود، الذي نعتقد أنه ساهم في إبعاد المسلمين عن ثورة العلم والتكنولوجيا التي صنعت حضارة هذا العصر.. . . .
التعليقات