راغدة درغام
تتقاطع القمة العربية المزمع عقدها الأسبوع المقبل في الأردن مع التوطيد النوعي في العلاقة الأميركية– السعودية، الذي أنجزته زيارة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان واشنطن هذا الأسبوع في العناوين التالية: إيران وأدوارها الإقليمية في سورية والعراق ولبنان واليمن.
اليمن في ظل الشراكة الأميركية– السعودية المرتقبة، بالذات ضد «القاعدة»، وما يتطلبه اليمن من تفكير وتكتيك جديد. فلسطين في الصفقة الأميركية وفي التصور العربي لها. المتطلبات الأميركية في المساهمات العربية في تحقيق هدف القضاء على تنظيم «داعش» وأمثاله. سورية في الموازين الأميركية– الروسية، والروسية– التركية، والروسية– الإيرانية. لن تخرج عن القمة العربية قرارات تاريخية، لأن الدول العربية ليست فاعلاً رئيسياً في صنع التاريخ في المنطقة العربية والشرق الأوسط كلاً، في هذه الحقبة. إنها مرحلة إدارة الاستدارات والتموضع الركيك. الاستدارة في العلاقة الأميركية– السعودية، عبر الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، أعادت العلاقة إلى ما كانت عليه قبل أن هزَّ أسسها الرئيس السابق باراك أوباما. هذه استدارة لا تعاني من الركاكة، وفق ما أسفر عنه لقاء محمد بن سلمان بدونالد ترامب وما تبعه من محادثات أمنية واقتصادية وتجارية وسياسية. فالقرار السعودي واضح، وهو التموضع مع سياسات إدارة ترامب في كل المجالات والميادين، والقرار الأميركي بالوضوح ذاته، وهو الترحيب الكامل بإعادة المياه إلى مجاريها في العلاقة الثنائية المهمة، خصوصاً من منطلق الرؤية 2030 التي اعتمدتها الرياض سياسة مستقبلية. ووفق المؤشرات الآتية من واشنطن ترامب، يريد الرئيس الجديد أيضاً إصلاح العلاقة الأميركية– المصرية، بعدما مزّقت إدارة أوباما نسيجها. واضح أن إدارة ترامب سترتد على الأولوية الإيرانية في الاعتبارات «الأوبامية». وهي عازمة على خوض مغامرة إيجاد صفقة مثالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إنما ليس واضحاً كيف تنوي التعامل مع تركيا التي يخوض رئيسها معارك علنية مع الحلفاء الأوروبيين، ويلعب على الأوتار الروسية في تقديم نفسه حليفاً فوق العادة وعدواً فوق العادة. كل هذه المسائل سترافق انعقاد القمة العربية التي ربما تقرر القفز عليها بدلاً من صوغ استراتيجيات استباقية نحوها.
العاصفة الثلجية في واشنطن عطّلت على المستشارة الألمانية أنغيلا مركل الوصول إلى البيت الأبيض يوم الثلثاء، لعقد الاجتماعات المهمة في العلاقة الأميركية– الألمانية، والأميركية– الأوروبية، وعلى صعيد مستقبل حلف شمال الأطلسي ومكانة تركيا فيه.
كانت العاصفة الثلجية من حسن حظ ولي ولي العهد السعودي، إذ سنحت الفرصة لجلسة تاريخية بينه وبين الرئيس دونالد ترامب في المكتب البيضاوي، وعلى مائدة الغذاء، ما وفَّر الأجواء المناسبة للتعارف الشخصي بين الرجلين وللعب «الكيمياء» دوراً في علاقتهما الشخصية وعلاقة بلديهما. فالاستقبال في المكتب البيضاوي يتم فقط، وبعامة، لرؤساء الدول والحكومات، وهو ما يميّز أهمية المكان في اللقاء بين دونالد ترامب ومحمد بن سلمان. استعجال الاجتماع بيومين قبل الموعد المحدد أبرز مدى الاستعدادات التي اتخذها الوفد السعودي قبل وصوله واشنطن، فكان جاهزاً عند المفاجأة.
وصل الوفد السعودي واشنطن، وفي حقيبته المبادئ الأساسية التي أراد لها أن تميّز الاستدارة الأميركية، بعيداً ممّا خرّبته إدارة أوباما، من وجهة نظر الرياض. أتى الوفد واعياً أولويات إدارة ترامب من سحق «داعش»، إلى بناء الجدار الأميركي– المكسيكي الأمني فحمل معه تجربته وخبرته في الجدار السعودي– العراقي ليثبت التلاقي. حرص على تخفيف حدة مواقف إدارة ترامب من حظر السفر على مواطني دول إسلامية، فتعمد عدم اعتباره حظر السفر على المسلمين مع إبداء التفهم لإجراءات إدارة ترامب. بل إن ما وُصِفَ بأنه مستشار رفيع المستوى لولي ولي العهد تحدث عن أوجه التشابه في الجرأة بين «رؤية 2030» للسعودية وبين وعود ترامب «بتحويل أميركا إلى عظيمة مجدداً»، معتبراً أن التلاقي بين الرؤيتين بات سياسة مشتركة.
تحدث المستشار عن الفرص المتاحة في العلاقات الاقتصادية والتجارية الاستثمارية «الضخمة» بين البلدين، متعمداً مدح بالمناخ الذي ما كان ليكون ملائماً، لولا جهود دونالد ترامب، وفق قوله. وأتى الصدى من البيت الأبيض عندما قال مسؤول أميركي في إحاطته عن اللقاء بين البلدين، إن توسيع التعاون الاقتصادي «سيخلق مليون فرصة عمل مباشرة للأميركيين في السنوات الأربع المقبلة، ومليون وظيفة غير مباشرة للأميركيين، وكذلك وظائف داخل السعودية».
ما قاله المسؤول أيضاً هو أن الرئيس ترامب «أبدى دعمه تطوير برنامج أميركي سعودي جديد تميزه مبادرات في مجال الطاقة، والصناعة والبنية التحتية، والتكنولوجيا بقيمة 200 بليون دولار، عبر استثمارات مباشرة وغير مباشرة في غضون الأربع سنوات المقبلة». هذا إلى جانب دعم الاستثمار الأميركي في السعودية، وتسهيل التجارة الثنائية الكبيرة بين البلدين. فلغة التعاون عملية تشمل الطاقة والتكنولوجيا، وليست فقط لغة سياسية.
أما في المجال الاستراتيجي، فتوافق الطرفان على «شراكة استراتيجية دائمة، مبنية على المصالح المشتركة، قوية وواسعة الأفق، مبنية على الالتزام والمصلحة المشتركة في استقرار منطقة الشرق الأوسط وازدهارها». وأوعز كل من ترامب وولي ولي العهد إلى فريقيهما «استطلاع الخطوات اللاحقة في مجالات واسعة سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية وثقافية واجتماعية، لتعزيز مستوى العلاقة الاستراتيجية لمصلحة البلدين ورفعها، ولتوسيع التعاون في قطاع الطاقة». هذا ما قاله المسؤول الأميركي بعد اللقاء، ومعنى ذلك أن الرئيس ترامب أطاح ما تصوره الرئيس أوباما على صعيد العلاقات الأميركية– السعودية، وأعاد العلاقة إلى أسسها التقليدية، بدلاً من أن تكون ملحقاً للعلاقة الأميركية– الإيرانية.
في ما يخص إيران، توافق الرئيس الأميركي وولي ولي العهد السعودي على «مجابهة» نشاطات إيران الإقليمية التي تقوّض الاستقرار، مع الاستمرار في تقويم تنفيذ طهران الدقيق الاتفاق النووي، واتفقا على مبدأ «التعاون العسكري بين البلدين في مواجهة داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى التي تشكل خطراً على البلدين»، أما كيف؟ فهذا الأمر وُضِعَ في أيدي الهيئات المعنية، الاستخبارية منها، والتمويلية والعسكرية رهن اللقاءات بين المختصين.
المهم في هذا الصدد، هو الانقلاب على سياسات إدارة أوباما، إذ إنّ الشريك الأساسي في الحرب على «داعش» ليس إيران، وإنما السعودية ومواقع نفوذهما في العراق بالذات، وسورية إذا أمكن. المهم أنّ السعودية ستشارك عملياً في الحرب على «داعش» وعلى «القاعدة» في استراتيجية مشتركة مع الولايات المتحدة. كيف وأين؟ هذا ما لن يكون جلياً بتفاصيله، ما عدا في مجال اتخاذ خطوات إضافية في قطع أي مساعدات من عائلات سعودية إلى أي تنظيمات إسلامية راديكالية.
السؤال الغامض الإجابة هو، كيف تنوي إدارة ترامب لجم الطموحات الإقليمية الإيرانية في العراق وسورية ولبنان واليمن؟ ربما الحلقة الأسهل قد تكون في اليمن، حيث توضع سياسات أميركية– سعودية، تستلزم تغييراً في أساليب الحرب اليمنية، كما في المواقف السياسية، إزاء الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي يرفض التنازلات، فالأولوية الأميركية هي محاربة الإرهاب و «القاعدة» بالذات، ومنع إيران من تهديد المصالح الأميركية في باب المندب، والحفاظ على الأمن السعودي عبر الحدود مع اليمن. الأولوية السعودية لا تختلف كثيراً عن الأميركية، إنما الفارق هو حول مصير الحوثيين. ما تريده واشنطن أيضاً هو تعديل السعودية كيفية شنها الحرب في اليمن، كي لا تكون أساليب الحرب عرقلة. ما يتوافق عليه الطرفان هو ضرورة إيجاد استراتيجية خروج للسعودية من الحرب اليمنية. يتوافقان على قطع الطريق أمام الطموحات الإيرانية عبر البوابة اليمنية.
سورية أمر آخر. الرقة أولوية أميركية، لأن إدارة ترامب تريد إنجاز سحق «داعش» هناك، تحت أي ظرف، ولو تطلب ذلك قوات أميركية تتواجد ميدانياً. السعودية مستعدة لتلبية أية مطالب أميركية في معركة الرقة، ولو تطلّب ذلك مشاركة عسكرية سعودية. روسيا حاضرة جداً في المحادثات الأميركية– السعودية حول سورية، وكذلك تركيا. المجهول هو كيف تنوي إدارة ترامب الحفاظ على خط الرجعة مع روسيا، بل على العلاقة المميزة التي يريدها ترامب مع نظيره فلاديمير بوتين، في ظل الوضوح الروسي بالتزام العلاقة المميزة مع إيران وتفهّم إصرار طهران على مصالحها داخل سورية. الرئيس السوري بشار الأسد قابل للأخذ والعطاء لدى إدارة ترامب، بمعنى عدم الإصرار على رحيله حالياً، وهذا ما أبلغته إدارة ترامب إلى ضيفها السعودي. فالأولوية إيرانية. كيف إذاً ستتم معالجة التصدي لإيران في سورية؟ إنه من ضمن الغموض في الطموحات الأميركية في سورية، في غياب استراتيجية حازمة.
الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي كان حاضراً في المحادثات الأميركية– السعودية، علماً أن دونالد ترامب عقد العزم على الصفقة كأساس لحل النزاع المزمن الذي عجزت الإدارات المتتالية عن حله. هناك خطوات اتخذتها إدارة ترامب أخرجت المسألة الفلسطينية من الجمود، مثل الاتصال بالرئيس محمود عباس، ودعوته إلى واشنطن وإيفاد مبعوث للقائه ولقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لاستطلاع آفاق الصفقة. بهذا، أخرج ترامب الملف الإسرائيلي– الفلسطيني من ظل الأولوية الإيرانية في فكر الدول الخليجية، وبالذات السعودية. إنما ماذا بعد؟
ما تريده إدارة ترامب هو زواج بين المظلة العربية الضرورية للتحرك الفلسطيني– الإسرائيلي، وبين السكة الثنائية الإسرائيلية– الفلسطينية الضرورية للتوصل إلى حل. دونالد ترامب أوكل إلى صهره جاريد كوشنر المهمة، وبذلك ربط نفسه شخصياً بالتحدي. السعودية ضرورية لجهوده لأنها صاحبة «المبادرة العربية» التي وضعت أسس الاعتراف بإسرائيل عربياً وإسلامياً. ملامح مبادرة ترامب تفيد بأنها تريد تعديل المبادرة العربية. كيف وفي أي اتجاه؟ هذا أيضاً رهن الغموض، لأن إدارة ترامب تستكشف، ولا تقدم بعد سياسة متكاملة.
كل هذه الأمور تتطلب من القمة العربية عدم الاكتفاء بالقفز على التطورات في انتظار وضوحها، فلسطينياً وسورياً ويمنياً وعراقياً. حان الوقت لأن تتخذ القمم العربية مسار المبادرة مجدداً وأن تتبنى استراتيجيات استباقية وتشجيعية على نسق إبلاغ الفلسطينيين أن الوقت حان للتوقف عن الانتصارات الصغيرة دولياً وعن الخلافات الكبيرة محلياً.
فهذه محطة مهمة للمنطقة العربية برمتها. وقد آن الأوان لوضوح في الاستراتيجية العربية، بالذات في زمن الغموض، وفي كيفية تنفيذ السياسات الأميركية، وفي زمن التخبط التركي، والتخوف الإيراني، والاستدراك الإسرائيلي، وصوغ الجديد في موازين القوى الإقليمية.
التعليقات