عندما كان مرشحاً رئاسياً قال دونالد ترامب «أنا أحب ويكيليكس». وفي الحقيقة أن ترامب كان لديه سبب وجيه يدعو للتعبير عن شعوره بالمودة تجاه هذا الموقع، الذي يديره «جوليان أسانج»، المتهم بارتكاب جرائم اغتصاب. فقيام هذا الموقع بالكشف عن رزم من رسائل البريد الإلكتروني المسروقة من اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، ومن رئيس حملة كلينتون «جون بودستا»، هو الذي ساعد على تحويل مسار انتخابات 2016 لصالح ترامب.

أما عندما أصبح رئيساً، فإن ترامب لم يخرج ليقول أي شيء يعبر عن امتنانه لويكيليكس، في أعقاب الكشف الهائل عن أسرار خاصة بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي.آي. إيه»، يوم الثلاثاء الماضي- وهو ما يعتبر بمثابة كنز يعتقد بعض الخبراء، أنه يمكن أن يكون أكثر تدميراً من المعلومات الخطيرة التي كشف عنها إدوارد سنودن. ولكن ترامب لم يشجب ويكيليكس هذا المرة. فتغريداته الأخيرة على موقع تويتر- والتي تعكس بشكل دقيق جموح شخصيته- تتضمن هجمات على «أرنولد شوارزينيجر»، و«نيويورك تايمز»، وباراك أوباما، وغيرهم، من دون أن تذكر ولو كلمة واحدة عن ويكيليكس. ألم يلاحظ الرئيس أن أجهزة الاستخبارات التي يرأسها بحكم منصبه، قد تعرضت لاختراق خطير لأمنها؟، أم أنه ببساطة لا يشعر بأنه مضطر للتعليق؟ هناك احتمال ثالث يعتبر أكثر إثارة للقلق في الحقيقة، وهو أن ترامب قد آثر أن يظل صامتاً، لأنه يرى أنه يستفيد من أحدث كشف لويكيليكس.

الهجوم على أوباما

تذكروا، هنا، أن ترامب كان قد وجه، اتهامات رهيبة للرئيس السابق باراك أوباما، بأنه قد أصدر أوامره لأجهزة الاستخبارات الأميركية، بالتنصت على مكالماته الهاتفية.

كتب ترامب: «إلى أي درجة تدنى الرئيس أوباما بحيث يتنصت (كتب الكلمة خطأً) على هواتفي خلال العملية الانتخابية المقدسة للغاية. هذا شيء يشبه ووترجيت/‏‏نيكسون.. هل هو شخص سيئ- أم مريض؟»

لم يتمكن البيت الأبيض أن يقدم أدنى دليل يدعم هذا الادعاء غير المسؤول، الذي نفاه مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف.بي. آي» جيمس كومي، والمدير السابق للاستخبارات الوطنية «جيمس كلابر». ولكن لا شيء سيثني ترامب عن مواصلة توجيه هذا الاتهام، الذي يعتبر وسيلة مريحة لصرف الأنظار عن الاتهامات الأكثر خطورة الموجهة له هو شخصيا، عن تواطؤ محتمل بين حملته الانتخابية والكرملين، عندما كانت روسيا تتدخل في الحملة الانتخابية الأميركية.

ليست مصادفة

هل هي مصادفة أن تعمد «ويكيليكس» إلى الكشف عن قاعدة بيانات ضخمة، تتعلق باختراقات، وتنصتات «سي. آي. إيه»، بعد ثلاثة أيام فقط من قيام ترامب بجعل موضوع تسجيل المكالمات موضوعاً سياسياً رئيسيا؟ ربما يكون الأمر كذلك. ولكن هناك أيضاً من الأسباب ما يدعو للشك.

أولاً، يجب أن نتذكر أن «ويكيليكس» كثيراً ما تقوم باختيار توقيت تسريباتها بدقة من أجل إحداث أقصى تأثير سياسي ممكن. فعلى سبيل المثال قام الموقع بتسريب 20 ألف رسالة بريد إلكتروني، مسروقة من «اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي»، قبل موعد المؤتمر الوطني للحزب في 25 يوليو 2016. وكما كان متوقعاً احتلت تسريبات «ويكيليكس» صدارة صفحات الصحف وواجهة أجهزة الإعلام، لما ذكرته عن قيام أعضاء اللجنة الوطنية للحزب بالحط من شأن السيناتور بيرني ساندرز، وهو الأمر الذي ساعد على دعم الجهد، الذي كانت تبذله حملة ترامب لمنع هيلاري من ضم أصوات مؤيدي السيناتور، وأدى نتيجة لذلك إلى دفع «ديبي واسرمان شولتز» رئيسة اللجنة الوطنية للحزب «الديمقراطي» لتقديم استقالتها من منصبها، وهو ما أدى في مجمله لمعاناة حملة هيلاري من ضرر كبير في مجال العلاقات العامة.

ثانياً، إن «ويكيليكس» التي كثيراً ما سربت أسراراً أميركية، ولكنها لم تسرب أبداً أسراراً روسية، قد عُرّفت من قبل أجهزة الاستخبارات الأميركية بأنها واجهة للاستخبارات الروسية. وفي شهر يناير الماضي، أفرج مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، عن تقدير جريء رفع السرية عنه، توصل إلى أنه «وبثقة كبيرة، يمكن القول إن الاستخبارات العسكرية الروسية، قد قامت بنقل مواد إلى ويكيليكس». وأن هذا قد تم لتحقيق غرض محدد، هو «إن بوتين والحكومة الروسية، كانا يطمحان لتعزيز فرص انتخاب ترامب، متى ما كان ذلك ممكنا، من خلال تشويه سمعة الوزيرة السابقة كلينتون والمقارنة بينه وبينها بطريقة يبدو من خلالها ترامب وكأن المقارنة قد انتهت لصالحه».

عداء ترامب للاستخبارات

كان ترامب يرفض على الدوام استنتاجات وكالات الاستخبارات، ويصر على أن رجلاً كسولاً وزنه 400 رطل، ربما يكون هو الذي ارتكب القرصنة، قبل أن يقبل استنتاجات الاستخبارات على مضض في نهاية المطاف، مع الاستمرار في الوقت ذاته، في الادعاء بأن قرصنة الروس لم يكن لها تأثير على الانتخابات. (وإذا عرفنا أنه فاز في ثلاث ولايات بهامش لا يزيد على 70 ألف صوت، فكيف يتسنى له أن يعرف ما الذي أثر على نتيجة الانتخابات، وما الذي لم يؤثر؟.. وإذا لم تكن ويكيليكس غير ذات أهمية، فلماذا كان يتشدق بتسريباتها في كل ظهور له تقريباً خلال الشهر الأخير من الحملة؟).

في رأيي أن اكتشاف أجهزة الاستخبارات لحقيقة أن بوتين قد ساعد ترامب على الفوز في الانتخابات، هو الذي دفع ترامب للسعي للثأر منها. فعلى سبيل المثال، اتهم ترامب الأشباح- من دون أن يقدم ما يدعم اتهامه- بأنهم كانوا وراء نشر مؤسسة BuzzFeed للإعلام الرقمي والأخبار العاجلة لملف يحمل في طياته أدلة إدانه، أعده ضابط سابق في الاستخبارات البريطانية، وادعى فيه أن الكرملين قد جمّع مواد مسيئة عنه. وغرد ترامب غاضباً:« لم يكن يجب على وكالات الاستخبارات أبداً أن تسمح لهذه الأخبار الزائفة بالتسرب للجمهور.. هذه هي الطلقة الأخيرة التي وجهت إليّ. هل نحن نعيش في ألمانيا النازية؟».

وقد استمر عداء ترامب لوكالات الاستخبارات، حتى وصل إلى حد اتهامه مؤخراً لهذه الوكالات، بأنها سمحت لنفسها بأن تُستَغل بوساطة أوباما، وتقوم بالتنصت على محادثاته الهاتفية. والخط الروائي المستمر الذي يستخدمه ترامب (وأن كان لا يصدق) هو أنه ليست هناك صلات بينه وبين روسيا، وأنه ضحية لمكائد شائنة من «الدولة العميقة» في أميركا.

ضحية لعملية خداع مزعومة

من المهم بالتالي أن نعرف أن واحداً من الخطوط الروائية الرئيسية، التي يمكن استخلاصها من تسريبات ويكيليكس الأخيرة، هو ذلك المتعلق بأن «سي. آي. إيه»، لديها، على ما يفترض، برنامج لإعادة استخدام الرموز الكودية لأجهزة الكمبيوتر المأخوذة من القراصنة الأجانب، لإخفاء بصمات الوكالة في عمليات القرصنة التي تقوم بها. وإذا نحينا جانباً، حقيقة أنه لا يوجد أي دليل، على أن الرموز المستخدمة لاختراق مواقع اللجنة الوطنية للحزب «الديمقراطي»، كانت جزءاً من قاعدة بيانات الوكالة، فإننا نجد مع ذلك أن المنافذ الإعلامية للجناح اليميني تتشدق بهذه التسريبات، من خلال استخدام عناوين رئيسية مثل ذلك الذي ظهر على شبكة «بريتبارت» للأخبار ومقالات الرأي، ونصه:« ويكيليكس: سي آي إيه تستخدم برامج قرصنة مسروقة لإلصاق تهمة الهجمات الإلكترونية بدول مثل روسيا».

يقال أيضا إن موقع « بوس» الافتراضي، الذي تتحكم فيه روسيا، يقوم بالتضخيم من هذه الادعاءات على الشبكة. والمغزى من ذلك كله واضح. وهو الترويج إلى أن ترامب كان ضحية لعملية خداع أوهمته- زيفاً- أن قراصنة «سي. آي. إيه»، اخترقوا موقع اللجنة الوطنية للحزب «الديمقراطي»، واتهموا الروس بذلك. ربما يكون ذلك ادعاءً غبياً، ولكن من الواضح على الفور أنه قابل للتصديق من قبل جمهور مهيأ لتصديق أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت مؤامرة داخلية، وأن مذبحة «ساندي هووك» كانت مدبرة- والاتهامان من الموضوعات المفضلة لدى مقدم البرامج الحوارية الإذاعية الكس جونز، الذي أثنى ترامب على عمله مؤخراً.

أما تسريبات «ويكيليكس» الأخرى، ومنها على سبيل المثال، أن «سي. آي. إيه» يمكنها استخدام تلفزيونات سامسونج الذكية كأجهزة تنصت، فتضفي المزيد من المصداقية، للتهمة التي وجهها ترامب لأوباما، بأنه قد قام سراً بالتنصت على مكالماته.

صرف الانتباه بعيداً عن الروس

وبصرف النظر تماماً عن محتوياته التفصيلية، فإن تسريب «ويكيليكس» يغير الموضوع بعد أيام قليلة سيئة لترامب، أظهرها بوضوح، قرار وزير العدل «جيف سيشينز» بإنقاذ نفسه، من أي تحقيق حول فضيحة علاقته بالكرملين(كرملين جيت)، وذلك بعد أن تم الكشف عن حقيقة أنه قد كذب تحت القسم، عندما أنكر قيامه بمقابلة أي ممثلين عن الحكومة الروسية. في الأسبوع الماضي وجد ترامب نفسه مضطراً لتبني موقف دفاعي.. أما الآن فإن أعداءه اللدودين في أجهزة الاستخبارات، هم الذين يجدون أنفسهم مضطرين للإجابة عن أسئلة محرجة، حول الكيفية التي يمكن أن يكون هذا التسريب قد تم بها، ومحتوى المعلومات المسرّبة.

عن دورية «فورين بوليسي»

*زميل كرسي (جين جيه كيرك باتريك) لدراسات الأمن القومي بـ«مجلس العلاقات الخارجية الأميركي»

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»