أحمد مغربي
ليس بالعبارات الملتبسة مهما كانت براعة صوغ كلماتها (بيان قمة البحر الميت تجنّب تسمية إيران عند الإشارة إلى ضرورة كفّها عن التدخل في الشأن العربي)، يكون استعداد العرب للواقع الذي فرضه الاتفاق النووي بين طهران والدول الكبرى: عودة إيران إلى النظام الدولي.
والغريب أن بعض العرب يفكر في تلك العودة على طريقة «عودة الابن الضال» (المخرج يوسف شاهين- 1976)، أو بكلمات نزار قبّاني «ما أحلى الرجوع إليه» في أغنية نجاة الصغيرة «أيظُنُّ»! يفكر أولئك كأن طهران تغني «كأنني طفل/ أعادوه إلى أبويه...»، وفق كلمات تلك الأغنية القديمة نفسها. بكلام فيه قليل من السياسة، عودة إيران ليست التزاماً ملائكيّاً بالسير على «عجين» النظام الدولي، فلا «يتخربط»، بل ربما كان أمرها على عكس ذلك تماماً.
إذا كان ما يجرى في سورية والعراق يصلح لأن يكون مؤشّراً الى تلك «العودة»، ألا يكون ضروريّاً التفكير في كيف يكون عليه ذلك الأمر في العوالم الافتراضيّة للإنترنت التي هي جزء أساسي من الوقائع الحقيقيّة للعالم المعاصر؟
تجربة جمارك كوبنهاغن
إذاً، لنعد إلى الوقائع. لنحاول أن نقرأ ولو شيئاً قليلاً من ملامح «إيران الإلكترونيّة» التي ربما استلزمت كتاباً لرصد صورتها الواسعة. ولعله ليس بعيداً في الزمن ذلك المقال الذي ظهر في صحيفة «واشنطن بوست» صيف عام 2014، وحمل عنواناً لافتاً: «هاكرز» إيرانيّون استهدفوا رسميّين أميركيّين». وعرض المقال تفاصيل عن تمكّن مجموعة «هاكرز» ترعاهم طهران من اختراق كومبيوترات مسؤولين أميركيّين يشغلون مناصب رسميّة حسّاسة.
ليس شيئاً قليلاً أن يحدث ذلك في بلد تحميه مؤسّسة استخباريّة عملاقة كـ «وكالة الأمن القومي»، تستطيع اختراق الشبكات ووسائط الاتّصالات على امتداد الكرة الأرضيّة.
وفي 2011، استطاع «هاكر» إيراني أن يخترق نظام الكومبيوتر في «سلطة المصادقة الإلكترونيّة» في الدنمارك، واسمها «ديجينوتار» DigiNotar. وتتوّلى تلك السلطة التأكّد من كل الهويّات التي تتحرك على الإنترنت في الدنمارك، وتعطيها إذناً أو تمنعها.
ومع سرقته هوية «ديجينوتار» نفسها، استطاع ذلك الـ»هاكر» أن ينتحل هويّة كيانات إلكترونيّة كبرى التي تدخل إلى الإنترنت في الدنمارك بعد حصولها على مصادقة من «ديجينوتار». وبذا، انتحل هويّة مؤسّسات كـ «غوغل» و «سي آي إيه» و «أم آي 6» و «موساد» و «مايكروسوفت» و «ياهوو» و «سكايب» و «فايسبوك» و «تويتر» و «خدمة تحديث نظام ويندوز» وغيرها. وبغمضة عين بات متاحاً له أن يتجسّس على مستخدمي تلك الخدمات. وكذلك دُرّب آخرون على تلك القدرة، تحت إشراف شبه مؤكّد من الحكومة الإيرانيّة، وهم استعملوا تلك الطريقة في فرض رقابة متوسّعة على إيرانيّين، بل ربما أجانب أيضاً. وحينها، قدّرت شركة «فوكس- آي تي» Fox- IT أنّه تم اختراق 300 ألف حساب إيراني على بريد «جي مايل» الإلكتروني.
وظهرت وقائع موثّقة عن تلك الضربة في مقال في مجلة «عالم الكومبيوتر» حمل عنوان: «تجسّس «هاكرز» على 300 ألف عنوان بريد إلكتروني إيراني في «جي مايل» باستخدام مصادقة مزيّفة من «غوغل».
سرّ «التوليب الأسود»
في المقابل، ذهب بعض المختصّين إلى الشك في أن إيران لم تصل إلى ذلك المستوى بجهودها الخاصة وحدها، بل رجحّوا إمكان أن تكون حكومة أخرى وراء الاختراق الأصلي، وأن الإيرانيّين امتطوا سطح ذلك النجاح. وروّجت شركة «فوكس- آي تي» أيضاً لذلك الاحتمال عبر مقال نشرته على موقعها في صيف عام 2012 بعنوان: «الـ «توليب» الأسود: تقرير عن اختراق «سلطة «ديجينوتار» للمصادقة».
وفي السنة التالية لضربة الدنمارك، عثر باحثون إيرانيّون في الشبكات الإيرانيّة على برنامج «فلايم» Flame، وهو برنامج للرقابة الإلكترونيّة يُعتقَد بأنّ إسرائيل والولايات المتّحدة زرعتاه في شبكات طهران. هل يعني ذلك أنه كان ردّاً على «ضربة كوبنهاغن»؟ ربما ليس ذلك هو الشيء الأساسي، ولعل الشيء الذي يجدر التقاطه هو حدوث تنامٍ ملحوظ في قدرات طهران معلوماتيّاً وشبكيّاً. والأرجح أنه أمر حدث في سنوات قليلة نسبيّاً، إذ يصعب نسيان أن إيران بدت شبه مكشوفة شبكيّاً في العام 2009، عندما تلقت ضربة موجعة هزّت شبكاتها، وشلّت جزءاً من مفاعلاتها النوويّة، بل أخّرت برنامجها النووي برمّته. تمثّلت تلك الضربة بالفيروس الإلكتروني «ستاكس نت» Stuxnet الذي يوصف على نطاق واسع بأنه أول سلاح معلوماتي رقمي يملك مستوى أداء عسكري فعلي. إذ أُطلِق «ستاكس نت» في 2009 من جانب الولايات المتّحدة وإسرائيل كي يضرب منشأة «ناتنز» النوويّة في إيران. ونجح في إحداث أضرار ماديّة مباشرة، ما اعتبر سابقة استراتيجيّة في العلاقة بين العمل العسكري الافتراضي على الإنترنت، والمقاربات الاستراتيجيّة الفعليّة عسكريّاً.
وإضافة إلى استهداف «ستاكس نت» إيران، تسرّب ذلك الفيروس الإلكتروني إلى ما يزيد على 50 ألف كومبيوتر في الهند وإندونيسيا وباكستان وغيرها، من بينها حواسيب تملكها شركة «شيفرون» وشركات صناعيّة ألمانيّة، بل ربما تسبّب أيضاً في سقوط قمر اصطناعي هندي في 2010.
وردت إيران، لكن ردّها كان واهناً نسبيّاً. إذ شهد العام 2012، هجمة سيبرانيّة استهدفت منشأة «آرامكو» السعودية، في ما يعتقد أنّه رد إيراني.
طهران ربما نمت بالقفز على كتفي بكين
كيف حدث التنامي في القدرات الإيرانيّة معلوماتيّاً؟ تصعب الإجابة القاطعة بالطبع. ولكن غالباً، تلجأ الدول الصغيرة إلى الكبيرة للحصول على مساعدتها في بناء بنيتها التحتيّة للرقابة. ووفق مقال نشرته صحيفة الـ «غارديان» البريطانيّة في خريف 2012، حصلت إيران على مساعدة الصين في بناء رقابة مندمجة مع بنية الإنترنت فيها، بل أن ذلك المقال ذهب إلى حدّ القول أن سعي إيران لتشديد الرقابة على الإنترنت أوصلها إلى صنع شبكة خاصة بها، ما يذكّر فوراً بالوضع في الصين. إذاً، هل الصين هي كلمة السر في القدرات الشبكيّة لطهران؟ ربما.
غياب مشبوه
في ذلك السياق، يلاحظ أن إيران غابت عن قائمتين لبرامج تصنعها شركات أميركيّة للرقابة على الإنترنت، على رغم ظهور اسمها في برامج أخرى. والحال أن سبب تذكّر البرنامجين هو انتشارهما في الدول العربيّة!
ويتمثّل الأول في برنامج «فِن فيشر» Fin Fisher الذي تصنعه شركة «غاما غروب» Gamma Group الألمانيّة- البريطانيّة، ويوصف بأنّه «حلّ معلوماتي هجومي للاقتحام». وتشتري حكومات عدّة ذلك البرنامج كي تتجسّس على حواسيب الناس وهواتفهم الذكيّة. في 2012، عثر بحّاثة على أدلة على استخدام «فِن فيشر» في البحرين وسنغافورة وإندونيسيا ومنغوليا وتركمانستان ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة وإثيوبيا وبروناي، إضافة إلى الولايات المتّحدة وهولندا. ولم تظهر طهران في تلك القائمة.
ويتمثّل الثاني في برنامج للرقابة تصنعه شركة «بلو كوت سيستمز» الأميركيّة، الذي أثار نقاشات حادّة حتى داخل الولايات المتحدة. وتضمّ القائمة الكاملة للبلدان الذي تشتريه: أفغانستان، البحرين، بورما، الصين، مصر، الهند، إندونيسيا، العراق، كينيا، كويت، لبنان، ماليزيا، نيجيريا، قطر، روسيا، السعودية، سنغافورة، كوريا الجنوبيّة، سورية، تايلاند، تركيا وفنزويلا. ومجدّداً، لا يظهر اسم طهران في تلك القائمة التي تصلح «ملخّصاً» عن الجامعة العربيّة، خصوصاً إذا جُمِعَ مع قائمة «فِن فيشر».
هل يكتفي العرب بشراء برامج جاهزة، مع ما تحمله من أخطار باتت معروفة بعد الوثائق التي سرّبها إدوارد سنودن؟ هل تتوقف عقلية الريع والاستهلاك والزبائنيّة عند البيع والشراء والتجارة، مع عدم إيلاء جهود كافية وحثيثة في تنمية قدرات العقول في العمل والمواجهة والانخراط الفاعل مع العالمين الفعلي والافتراضي، وبالاتجاهات السلبيّة والإيجابيّة أيضاً؟ على الأقل، يجدر البدء بفتح نقاشٍ جدّي ومعمّق عن تلك الأمور، أليس كذلك؟
التعليقات