هذا الذكي الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية.. ولا نبالغ لو قلنا إنه أصبح الإصبع السادس في أيدينا.. يرافقنا طوال يومنا وحيثما ذهبنا، وحتى عندما ننام نحرص أن يكون إلى جانبنا لعل خبراً ما يصلنا. هو صلة الوصل بيننا وبين العالم. بهرنا بذكائه الفائق وبتطبيقاته التي جمعت بريدنا وكل أسرارنا وحتى تفاصيل حساباتنا البنكية المفتوحة أمامه.. لكنه يعدنا بكتمان كل ما يسمع ويسجل ويرصد، ونصدق، لا نناقش وكيف نناقش؟ والعالم كله سبقنا باعتماده.. ولماذا نناقش؟ والجميع كباراً وصغاراً لم يناقشوا، بل شجعونا عليه، وحتى الرؤساء والقادة أنفسهم يعتمدون عليه.
هذا الهاتف المُسالم الذكي.. أثبت خلال الحروب الأخيرة أنه فعلاً ذكي. لكنه ليس مسالماً كما يدعي.. القصة بدأت بتطبيقات التجسس المتاحة والتي تباع علناً في المتاجر على الإنترنت. ومما لا شك فيه أن التلصص على الآخرين والتفتيش عن أسرارهم ليس جديداً.. إذ يقال إن صحفاً في القرن التاسع عشر كانت تُسلط الأضواء على المشاهير وتتناول الشائعات التي تدور حولهم قبل سنوات كثيرة من ظهور التكنولوجيا التي تسهل مُراقبة ومُتابعة الناس العاديين.
برر العلماء إتاحة هذه التطبيقات بهدف مراقبة الأهل لأبنائهم أو في مجال العمل مراقبة الموظفين.. لكن كل ذلك يتنافى في نظر الكثيرين مع مبدأ حقوق الإنسان. ومع ذلك ما كادت تتطور المناقشات في هذا المجال حتى وجد العالم أنه كله مُراقب من قبل شركات التكنولوجيا التي تقدم له خدماتها الجذابة بلا مقابل سوى الدخول إلى حياته الخاصة ورصد كل تحركاته وتاريخ علاقاته وجغرافية تنقلاته والاحتفاظ بها وتحليلها للتنبؤ بتحركاته المستقبلية قبل أن يُقررها هو.. كل ذلك جاء تحت غطاء أنها تُستعمل في تسهيل وصول الإعلانات التي يحتاج إليها. تبرر هذه الشركات لنفسها كل تلك الانتهاكات بأنها لا تتقاضى مقابل الخدمات التي تقدمها للمُستخدم، وبالتالي تحتاج إلى التمويل من شركات الإعلان. وتؤكد أن رصد المعلومات الشخصية يتم بطريقة آلية لا بتدخل بشري فيها وتبقى الخصوصية مصانة بسرية تامة..
تصدق أو لا تصدق.. هذه مشكلتك لن تجد دليلاً واحداً يجيب عن تساؤلاتك.
إلى هنا استمر النقاش بين أخذ ورد من دون أن يثير أي مخاوف، حتى جاءت الحروب الأخيرة التي بدأت بالتحذير من الأجهزة التي نحملها والتي قد تكون فيها ثغرة لا يَعرفها إلا مُطورها ويستطيع من خلالها تحويلها إلى قنبلة إذا ما قامت حرب عالمية. وقد نرفض هذه التحذيرات ونستبعد حدوثها.. لكن الأفضل أن ندرس ونتعلم ونسأل. أما تطبيقات التجسس فالأكيد أنها تتطور لكن برامجها السرية غير متاحة إلا للنُخب المُختارة خلال الحروب، وهي تطبيقات خطيرة تُستعمل في تعقب العدو وتحديد موقعه الجغرافي بهدف اغتياله. ويكون ذلك بعد جمع البيانات الكثيرة عنه وتحليلها لتحديد خطواته القادمة وتعقبها.. بطريقة حرفية.. ذكية ومبهرة لا يجيدها أي جاسوس بشري مهما تفوق بذكائه.
هكذا هو الذكاء البشري يخترع آلة تفوقه في الذكاء، ويتباهى بما تقدمه من خدمات تعمي عيون المُراقب.. لكن الثغرة التي يَحتفظ بها المُطور قادرة على تحويله إلى ذكاءٍ قاتل أكثر دهاءً وخطراً من أي سلاح. اليوم لا بد من الاعتراف أننا في زمن السلاح التكنولوجي الذي وصلنا كمساعد مُسالم، فكان أن كشفت الحروب الأخيرة وجهاً آخر له معتماً وسرياً تتحكم به الشركات المُصنعة وتوجهه إلى حيث تريد. وكما تتنافس شركات الأسلحة في تطوير أسلحة ذكاء اصطناعي قاتلة وفتاكة، تسعى شركات التكنولوجيا بصمت لتطوير برامج وتطبيقات تجسس تخترق الهواتف دون استئذان وتحدد الهدف بدقة يعجز عنها أي مُراقب، كما تعمل في الوقت نفسه على مُراقبة المُحادثات والرسائل لاستعمالها في تتبع الهدف (العدو). إذن وبكلمة أخرى دخل هذا الهاتف الذكي بتطبيقاته السرية عالم المخابرات بتفوق.. وبحسب صحيفة «واشنطن بوست» تحاول الدول الكبرى الاستحواذ على هذه التطبيقات المتقدمة الخاصة بالتجسس. ومما يُذكر عن هذه التطبيقات أنها تزود مُستعملها بكافة المعلومات التي يُريدها وبالصور والفيديوهات حتى لو كان الهاتف في وضع المُغلق!!
وتتعالى الاتهامات بين الشركات الكبرى والتطبيقات، خاصة تطبيقات التواصل الاجتماعي التي نالت الحظ الأكبر منها الفيسبوك الذي كان أول من استخدم خاصية التعرف إلى وجوه المستخدمين.. فقد تمكن من إدخال برنامج يمكنه من تحديد تعابير المستخدم.. يعني لو مررت على (بوست) ولم تُعلق عليه لكن تعابير وجهك أوحت بأنك لا تحبه.. سَجل ذلك في ملفك الخاص الذي يحتفظ به. ورغم أن هذه الخاصية أعلن عنها عام 2019 إلا أنها أثارت قلقاً كبيراً وفتحت باباً جديداً في عالم خرق الخصوصية وجمع البيانات. لكن مراكز الشرطة في الولايات المتحدة استخدمت هذه الخاصية للتعرف إلى المتهمين في الجرائم، ولكن بقيت تعارضها مدن مثل سان فرنسيسكو وتعتبرها خرقاً للخصوصية. وأمام هذه التطورات التي تتلاحق بسرعة نعود إلى التحذيرات الكثيرة التي أعلنت من قبل المُطورين أنفسهم أننا قد نكون يوماً أمام تحد جديد نكتشف فيه أن ذكاء الآلة.. التي تتطور بلا قانون لتتفوق على ذكاء الإنسان، قد يسيطر عليه.
*كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية