كلما التقى عبد الإله بن كيران، رئيس الحكومة المغربية الأسبق والأمين العام لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، بمحمد بن عيسى، وزير الثقافة والخارجية الأسبق، خاطبه قائلاً: "يا منقذي، يا منقذي". لكن ممّ أنقذ ابن عيسى ابن كيران؟ في الخامس من كانون الثاني (يناير) 1982، جاء شاب ملتحٍ اسمه عبد الإله بن كيران إلى مقر صحيفة "الميثاق الوطني" الناطقة آنذاك باسم حزب التجمع الوطني للأحرار، بزعامة أحمد عصمان، صهر الملك الراحل الحسن الثاني. طلب ابن كيران اللقاء بمدير الصحيفة المسؤول عن النشر. فاستقبله المدير، الذي لم يكن سوى محمد بن عيسى، نائب أصيلة في البرلمان. كانت رسالة ابن كيران واضحة المعنى: "لقد خرجت للتو من السجن بهدف نشر هذا البيان، فإذا نشرتموه لن أعود إليه، وإذا لم تنشروه سأعود إليه". حينها قرأ ابن عيسى البيان، وكان يتعلق بانفصال أعضاء في جمعية الشبيبة الإسلامية. نادى على الصحافي محمد أوجار، الذي سيصبح بعد أكثر من عقد ونيف وزيراً لحقوق الإنسان في حكومة التناوب التوافقي بقيادة عبد الرحمن اليوسفي، ثم وزيراً للعدل في حكومة الدكتور سعد الدين العثماني، ووجّهه بنشر البيان مع ملخص له في الصفحة الأولى. قبل أكثر من ثلاثة أسابيع، قال مصطفى الخلفي، القيادي في "العدالة والتنمية" والوزير السابق، خلال مداخلة له في ندوة منتدى أصيلة حول موضوع "الحركات الدينية والحقل السياسي: أي مصير؟": "إن ما أقدم عليه ابن عيسى بنشره بيان الانفصال هو تعبير عن سلوك نخبة آمنت باستيعاب هذا التيار عندما ينبذ العنف ويؤمن بالعمل في إطار المؤسسات". وقع ابن كيران البيان نيابةً عن 13 عضواً في جمعية الشبيبة الإسلامية كانوا معتقلين آنذاك، وهم: علال العمراني، وإدريس شاهين، ومحمد يتيم (الذي سيصبح وزير العمل في حكومة العثماني)، ومحمد الأمين بوخبزة، وعبد العزيز بومارت، وإدريس بومارت، ورشيد حازم، وعبد السلام كليش، والعربي العضم، وسعد الدين العثماني، وعبد الحميد قباج، وتوفيق عسيلة وأحمد لخليفي. بدأت الخطوة الأولى في مسار الانفصال عندما صدر حكم بالسجن المؤبد بحق مرشد الجمعية عبد الكريم مطيع. حينها، صدرت في الخارج مجلة تحمل اسم "المجاهد" تتحدث باسم “الشبيبة الإسلامية”، متخذةً مواقف لم تكن موضع اتفاق أو تشاور بين أعضائها في الداخل ومرشدها في الخارج، لا سيما في انتقادها وتشهيرها بعامة الدعاة في العالم، وكذلك موقفها الغامض تجاه قضية الصحراء المغربية. وبما أن مطيع، حسب ما أوضح البيان، لم يتبرأ من هذه المجلة، وبما أن هناك قرائن تدل على تبنيه لها، فقد قرر ابن كيران ورفاقه ما يلي: أولاً: أعلنوا انفصالهم العضوي عن جمعية الشبيبة الإسلامية، وأنهم لا يتحملون أية مسؤولية عن أي تصرف أو عمل أو بيان يحمل اسم هذه الجمعية. ثانياً: أعلنوا صراحةً أنه لم تعد تربطهم أية علاقة مع مطيع، سواء في إطار الدعوة أو غيرها. ثالثاً: أكدوا أنهم لا يتحملون أي مسؤولية في أي عمل أو موقف يتخذه أو يأمر به، وذلك اعتباراً من تاريخ صدور مجلة "المجاهد" في آذار (مارس) 1981. رابعاً: أعربوا عن قناعتهم بالعمل من أجل الدعوة الإسلامية، وأنهم سيعلنون عن الإطار القانوني الذي سيعملون من خلاله. لم يرُق نشر البيان في صحيفة "الميثاق الوطني" بعضَ الجهات النافذة، وتلقى ابن عيسى مكالمة هاتفية تندد بالنشر، لكن تبين فيما بعد أن الدوائر العليا في البلاد استحسنت ذلك، ولم تعد ترى في ابن عيسى مجرد مهووس بالثقافة والفنون بل "حيوان سياسي" أيضاً. شكّل صدور بيان "الانفصال" مرحلةً جديدةً في مسار الحركة الإسلامية بالمغرب، حيث كانت الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو تشكيل حزب العدالة والتنمية للحكومة عقب انتخابات 2011. فقد أسس ابن كيران وصحبه حركة "التوحيد والإصلاح" التي اتخذت نهجاً معتدلاً يسعى للإصلاح الاجتماعي والسياسي من داخل المؤسسات. وفي أواخر عقد التسعينيات، انضموا إلى حزب "الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية" بقيادة عبد الكريم الخطيب، الذي أعيدت تسميته لاحقاً "حزب العدالة والتنمية”. تبقى قصة حزب العدالة والتنمية المغربي نتاج حكمة وبُعد نظر عاهلين لا يغلقان أبواب أسوار القصر الملكي بالإسمنت، بل يتركان المجال دائماً مفتوحاً لاستيعاب كل مكونات المجتمع السياسي وإدماجها في المنظومة السياسية للبلاد. في عام 1990، دعا الملك الراحل الحسن الثاني السلطات الجزائرية إلى السماح للإسلاميين بالمشاركة في الحكم، معتبراً أن الجزائر يمكن أن تكون نموذجاً للتعايش الديموقراطي، لكن ردها كان سريعاً وواضحاً، إذ اعتبرت أنها "ليست مختبراً للتجارب" السياسية، وكانت نتيجة ذلك "عشرية سوداء" لم تندمل جروحها حتى الآن. في المغرب، حدث العكس، إذ عبّد الملك الراحل الحسن الثاني، بنظام وانتظام، الطريق لإقامة حزب ذي مرجعية إسلامية. ثم جاء عهد الملك محمد السادس، الذي لم يتعامل بغِلظة مع الإسلاميين، بل احترم نتائج صناديق الاقتراع لولايتين دامتا 10 سنوات بالتمام والكمال، إلى أن لفظتهم صناديق الاقتراع في 2021. لم يسجن محمد السادس أحداً منهم، ولم يدفعهم للتقوقع في شكوى المظلومية، بل جعلهم وزراء في حكومته. وكانت النتيجة أن المملكة ربحت الأمن والاستقرار ومضت قدماً في عملية البناء والتنمية وترسيخ المؤسسات. هكذا تحول حزب العدالة والتنمية إلى فاعل سياسي يتنافس في الانتخابات ويشارك في الحكومة، وهو معطى تحقق في اقتراعي 2011 و2016. لقد أشار الخلفي في منتدى أصيلة إلى أن حزبه هُزم في اقتراع 2021، معتبراً أن ذلك يقع لدى كل الأحزاب التي تشارك على مدى ولايتين في قيادة العمل الحكومي، قبل أن يضيف: "والآن نحن في البرلمان نقوم بدور المعارضة، وطموحنا كبير في أن يتعزز موقعنا في انتخابات 2026". إن المسألة هنا لا تتعلق بإغلاق قوس أو فتح قوس بالنسبة لـ"العدالة والتنمية"، بقدر ما تتعلق بمسار دوري فيه صعود ونزول ومد وجزر. وذاك لعمري، نموذج ناجح وناعم قد يفيد في التعامل مع مسارات باقي التجارب في المنطقة العربية.