محمد الرميحي
مثل كثيرين غيري كنت أنتظر مقابلة الأمير محمد بن سلمان مساء الثلاثاء منذ الإعلان عنها مع المقدم القدير داود الشريان، وقد شاهدتها، ثم بعد انتهائها اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي تتحدث عن المقابلة وتفاصيل ما جاء فيها، كل حسب قدرته على الفهم، أو مخزون ثقافته، كما تناقلت وكالات الأنباء والإذاعات أجزاء منها، وكغيري أيضا تسلمت رسالة من زميلة أكاديمية من المملكة العربية السعودية تعليقا حول الموضوع، أستأذن في نقل جزء منها، قالت: «في ورشة العمل التي عقدت قبل سنة تقريبا لإطلاق (برنامج التحول الوطني)، كان لقاؤنا مع الأمير محمد بن سلمان، وكان أول حديث يعقده بين جمهور... أتذكر أنني بعد اللقاء عندما سئلت عن انطباعي، قلت: الآن اطمأن قلبي على وطني» انتهى الاقتباس! سوف يكتب ولا شك كثير من التعليقات حول لقاء الأمير مع شريان، بعضه مادح، وبعضه ربما ناقد، لكوني مواطنا من دول الخليج على شيء من الاطلاع أضمّ صوتي إلى الزميلة وأقول بلا اعتذار أو مديح، أنا أيضا اطمأن قلبي.
أسبابي للاطمئنان أن الرجل واضح الرؤية يشارك باقتدار في قيادة المملكة العربية السعودية، وهي لي ولأي خليجي عمود الخيمة في هذه الأجواء العاصفة حولنا، وضع محمد بن سلمان الأجندة فوق الطاولة وفرش أمامنا تصورا للتحديث علمياً وعقلانياً وفي الوقت نفسه مليئا بالصراحة، محليا في الاقتصاد، عصب أي تقدم اجتماعي، وإقليميا في الأمن وهو بحث الإقليم الدائم عن الاستقرار، وعالميا في الشراكة، وهو بُعد لا غنى عنه في زماننا. المملكة العربية السعودية ومعها الخليج مستهدفة اليوم، كما لم تستهدف المنطقة من قبل، والتحديات ليست سهلة يسير حلها، إلا أن الوضوح في مواجهة التحديات هي المدخل الصحيح للتغلب عليها، فأي شيء لا نعرفه نخشاه، وعندما تعرفه تستطيع التغلب عليه.
المحاور في اللقاء ثلاثة، الأول الاقتصاد في المملكة وكيف يمكن أن يُحافظ على مستوى اقتصادي مريح مع تنويع مصادر الدخل من صناعة وسياحة وتجارة ومواصلات، في المقابلة إفاضة في هذا الملف لا داعي لتكرارها هنا، الملاحظ على تلك الإفاضة أنها معتمدة على الأرقام، واضحة الأهداف ومبرمجة زمنيا، والمحور الثاني هو التحدي الآيديولوجي إن صحت التسمية، فقد أشارت المقابلة إلى خطر (الإسلام السياسي) بشقيه (مشروع الخلافة ومشروع الإمامة) وهو خطر، لأنه أولا يفتقد المشروع الحديث لإدارة الدول، وثانيا ضبابي يعتمد تضليل العامة باسم الدين، أشارت المقابلة إلى ذلك دون مواربة. إن خلط الأول بالثاني ينتج شرورا كبيرة، وقد رددت معظم وسائل الإعلام هذا القول بالتحديد، كيف يمكن أن نتحدث (نفاوض) مع مجموعة من الناس تؤمن أن لديها مشروعا من خلاله يجب أن تحكم كل بلاد المسلمين، وهو مشروع (في انتظار المهدي) قد يكون محترما إن بقي في إطار الاعتقاد، أما أن يخرج إلى الفضاء السياسي، ويجري تنفيذه بصفته مشروعا على كل الجوار وبالقوة، فإن الحديث مع هذه الجماعة غير منطقي وغير ممكن الوصول به إلى بر الأمان، ويدل على عقلية «قرنأوسطية»، أما مشروع الخلافة الذي يتشكل بألوان مختلفة، منها الحركي ومنها العُنفي، فهو أيضا يفتقد العيش في العصر، ويفارق بناء الأوطان، لأنه يحتوي على مكون غير عقلاني، أساسه تهميش الآخر ومعاداته! المصفوفة التي تتضح لدينا من حديث الأمير محمد بن سلمان، أن لدينا فكرة (هي التحديث الاقتصادي - الاجتماعي) ولدينا بعد الفكرة نظام يُركب بفاعلية من مواطنين متخصصين، ولدينا رافعة وهي القيادة المؤمنة بالتحديث والقادرة عليه، كما لدينا شركاء، هذه المنظومة يستطيع المتابع أن يتلمسها في مجمل الحديث الذي أذيع ليلة الثلاثاء الماضي. إنها أشياء لها منطقها في التطور، ودون أي تفسيرات خارجة عن السياق، فإن ما نراه اليوم في المملكة من تفويض وتصميم للانتقال إلى مرحلة أخرى من التنمية، هي نتاج - ولا شك - لمخزون ثقافي - سياسي عميق للملك سلمان، بعد أن خبر الدنيا وخبرته، فاختار نوعا من القيادة لا يتيح للمملكة التطور فقط، ولكن ينقلها إلى مكان تستحقه تحت الشمس. العالم يتغير بشكل سريع، والخمول أمام التغير تراجع، لذلك فإن العقول التي تخطط اليوم، ويلقي على عاتقها التنفيذ، هي نتاج مدرسة حديثة متصالحة مع العصر. ربما لم يتسع الوقت للأخ شريان أن يبحر في الأسئلة للأمير، ولكنها أسئلة لا شك أن كثيرين سألوها وهم يشاهدون المقابلة، ماذا عن وضع المرأة السعودية؟ بعد أن قطعت كل ذلك الشوط في التعليم والمشاركة الاجتماعية، عندي إجابة ليست لي، ولكن لا بد من إرجاع الفضل لأهله، فقد سمعتها في ندوة مفتوحة للأمير سلطان بن سلمان في الكويت منذ أشهر... عبارة فارقة ولافتة، قال - والحديث عن دور المرأة: «لا بد لنا من إعادة زيارة إلى ملف المرأة السعودية»، وهو تعبير يقود أولا إلى أن هناك من الوعي، وعلى أعلى مستوى، بأن هذا الملف وجب أن تعاد دراسته، كما أن الأمر أصبح ليس مهما بل ضروريا للتطور. في موضوع آخر أشار الأمير محمد بن سلمان إشارة عابرة في اللقاء، ولكني أريد أن أتوقف عندها لما لها من أهمية، فقد قال: «كانت لدينا منذ أيام السيدة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وصحبت معها كثيرا من أصحاب الشركات، وكانت لهم شكوى، من أن التراخيص التي تعطى لهم صالحة لعام واحد فقط، وتقرر - يقول الأمير - أن تعطى التراخيص لمدة خمسة أعوام، من أجل أن تشعر تلك الشركات بالاطمئنان، هذا الأمر يفتح ملف ما يعرف بالبيروقراطية، وهي آفة من أهم أفعالها غلق الأبواب وسدّ الشبابيك للمستثمر المحلي والأجنبي، بل وبسبب تضخمها قد تكون مدخلا لشيء من التباطؤ وحتى الفساد، والأمر يتطلب بالطبع إعادة نظر جذرية في آليات البيروقراطية على جميع الصعد، وتقول الدراسات في أماكن أخرى من تجارب العالم إن الفرق في القدرة على النمو من عدمه، هو طول أو قصر سلسلة البيروقراطية في الدولة. في مكان آخر ربما لم يتسع المقام للحديث عنه، هو ما يعرف اليوم بالبحث والتطوير، وفي المملكة كثير من الجامعات ومراكز البحث العلمي، هذا القطاع ذراع مهمة وأصيلة في التنمية، فلا تنمية دون بحث علمي وتطبيقات عملية لنتائجه فهو قيمة مضافة، ومع الثورة التقنية فإن أولويات البحث والتطبيق واجب أن يعاد النظر فيها، وتفعيل جدارتها تجاه التنمية، حيث تخلق فرص عمل وتتيح تصنيع منتجات جديدة، ويتطور من خلال تفعيلها المجتمع، ولعل آخر ملف، ولكنه أهم ملف لم يتسع الوقت له، هو الحديث عن الثقافة، وأعني بها الفكرة العامة والكلية للموقف المجتمعي التي قد تعطل التوجه المجتمعي العام تجاه التطور، وتطلق أدوات مضادة له، فالمجتمع مثل الإنسان الفرد لا يمكن أن تطول يد فيه، دون أن تطول الأخرى، أي أن الأنظمة المكونة للمجتمع تكاملية وتساندية في الوقت نفسه، لا ينمو جزء منها بعيدا عن الآخر، والتنمية بشكلها العام تحتاج إلى ثقافة مجتمعية تستند إليها وتساندها، وفي دراسات كثيرة، توفرت لمجتمعات أخرى ذات موارد وإمكانيات متساوية، ولكن نما بعضها وتخلف آخر بسبب بعض عناصر الثقافة المعوقة! وهناك قطاع من أهل المعرفة في المملكة اختمرت لديه التجربة والحكمة فأصبح رأسمال بشريا لا يستهان به هو خير رافعة للمأمول القادم.
آخر الكلام: سوف يعود كثيرون في المستقبل لهذه المقابلة لينظروا في تحليلها ومقارناتها، إلا أن حدوثها بهذه الشفافية أنعش الآمال وأوضح معالم الطريق.. . . . .
التعليقات