عبدالغفار شكر

لا تكتفى قوى العولمة بطرح سياسات وآليات اقتصادية لإدماج اقتصاديات مختلف بلدان العالم فى السوق الرأسمالى العالمى بل تطرح على هذه البلدان النموذج الرأسمالى كمثال يحتذى وتدعو الى الأخذ به فى جوانبه السياسية والإجتماعية والثقافية مؤكدة أن التحول الى الديمقراطية مرتبط ومشروط بالتحول الى الرأسمالية، وتأتى المساعدات الغربية لدعم النشاط فى مجال الديمقراطية وحقوق الانسان تعبيرا عن أن هذا التحول يحقق مصالحها وقد عبر عن ذلك بوضوح وارن كريستوفر وزير الخارجية الامريكى فى عهد كلينتون الذى أكد أن الاهتمام بحقوق الإنسان فى العالم يعبر عن مصلحة قومية أمريكية تتمثل فى المقام الأول فى نشر المفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان فى الفكر الرأسمالي.

ولأن قوى العولمة تطرح الديمقراطية على الصعيد العالمى من منطلق المصالح فإننا نلاحظ أن موقفها من التطور والممارسة الديمقراطية فى مختلف بلدان العالم تتسم بما يلي:-

اعتبار أمريكا أن الديمقراطية مجرد وسيلة لإقامة دولة شرعية يعتمد عليها فى تمرير السياسات دون إجبار زائد او قمع شديد، وهى من هنا مجرد إطار لإدارة الأزمة الناجمة عن سياسات التكيف الهيكلى وما ترتب عليها من آثار اجتماعية ومشاكل جماهيرية، ولذلك لا يوجد اهتمام حقيقى من قوى العولمة بحرية الاجتماع أو حرية التعبير أو توافر نظام وممارسات قانونية تحترم حقوق الإنسان أو توفر ضمانات نزاهة الانتخابات البرلمانية وتحقيق الهدف الأساسى من الديمقراطية وهو تداول السلطة.

ازدواجية المعايير فى الموقف من الدول التى لا تلتزم بالحقوق والحريات السياسية والمدنية التى هى من أسس الديمقراطية البرجوازية حيث نلاحظ مثلا استمرار إعطاء الصين حقوق الدولة الأولى بالرعاية وتوسيع التجارة معها رغم انتقادها لموقفها من حقوق الإنسان، وعلى العكس من ذلك ترفض اشتراك كوبا فى قمة الدول الأمريكية بحجة انها دولة غير ديمقراطية. نفس ازدواجية المعايير نلاحظها فى تعامل قوى العولمة مع الأقطار العربية حيث توسع علاقاتها مع المملكة العربية السعودية مثلا رغم الانتهاكات الفظة لمبادئ وأسس الديمقراطية وتساعد إسرائيل الى اقصى حد رغم عدوانها على حقوق الشعب الفلسطينى الثابتة. وهى تستخدم قضية حقوق الإنسان للضغط على الدول لمسايرة سياساتها كما يحدث مع مصر مثلا.

الانتقائية فى التركيز على جوانب معينة من قضية الديمقراطية وإهمال جوانب أخرى لا تقل عنها أهمية حيث يتم التركيز على حرية تدفق السلع ورؤس الأموال والأفكار والقيم، بينما تفرض قيودا شديدة على حرية انتقال الأفراد وتوضع عقبات أمام دخول أبناء الجنوب الى دول الشمال، وعدم الاهتمام بقضايا اللاجئين (اى التركيز على الحقوق والحريات المرتبطة بالسوق الحرة).

ونلاحظ نفس المواقف من حقوق الإنسان فهناك انتقائية فى هذا المجال حيث يتم التركيز على حقوق الأفراد وتهمل حقوق الجماعات، كما يتم التركيز على الحريات الفردية المدنية والسياسية وتهمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الى درجة أن وزارة الخارجية الأمريكية استبعدت سنة 1986 الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من اهتماماتها وطلبت من سفاراتها شطبها من التقارير التى تعدها عن البلدان الموجودة بها.

وبالنسبة للمجتمع المدنى فإن قوى العولمة لا تهتم به باعتباره الوسيط بين الفرد والدولة والذى يستطيع أن يحقق التوازن بين مصلحة الفرد الضعيف وسلطة الدولة شبه المطلقة، كما أنها لا تهتم به باعتبار وجوده وفاعليته شرطاً أساسياً للتطور الديمقراطى لما يمتلكه من قدرة على الضغط بوسائل سلمية غير عنيفة فيساعد بذلك على تقوية إمكانية إجراء اصلاحات سياسية بل تعتبره بديلا للدولة عندما تنسحب من أدوارها التقليدية ومسئوليتها فى دعم الفئات الفقيرة وإعادة توزيع الدخل القومى لصالح الطبقات العاملة والكادحة والفئات الضعيفة فقوى العولمة تدعم المجتمع المدنى فى دول الجنوب لكى يكون اطارا يعبئ شرائح وقوى اجتماعية لتتحمل عبء مواجهة المشاكل الناجمة عن سياسات التكيف الهيكلى وتخلى الدولة عن مسئولياتها فى هذا الصدد. وفى نفس السياق شجعت على إجراء تحول جوهرى فى منظمات المجتمع المدنى متمثلا فى قيام مئات الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التى تنشط حول أهداف مفتتة وقضايا جزئية دون ارتباط بالأسباب المشتركة لهذه المشاكل الجزئية ودون وضوح حول امكانية التنسيق والتعاون بينها لمواجهة هذه الأسباب التى تعود بالأساس الى العولمة الرأسمالية وسياساتها، مما يهدد مؤسسات المجتمع المدنى بالتحول عن دورها الأساسى كجزء من المجتمع الديمقراطى الى ملطف ومخفف لحدة المشاكل الاجتماعية الناجمة عن سياسات العولمة وتأثيراتها على دول الجنوب وتكرس فى نفس الوقت الحكم الاستبدادي.

وفى هذا السياق حدث تحول فى بنية الحركات الاجتماعية مثل الحركة العمالية والحركة الفلاحية والحركة الطلابية والحركة النسائية التى كانت جزءاً من الصراع الطبقى فى المجتمع هدفها حماية مصالح فئات اجتماعية واسعة او طبقات فى مواجهة الاستغلال والقهر الذى تمارسه فئات أخرى وحل محلها حركات اجتماعية جديدة تنشط حول قضايا وأهداف جزئية كقضايا البيئة والأمومة والطفولة والأقليات والسكان الأصليين الذين لا تربطهم ببعض علاقة نضال مشترك.

هذه مجرد أمثلة لما أحدثته العولمة فى الديمقراطية أدت الى تطورات سلبية من المهم للقوى الديمقراطية والتقدمية ان تتصدى لها وان تطرح فى مقابلها مشروعا شاملا لبناء الديمقراطية والحفاظ على التماسك الاجتماعى وعدم الانحراف بالتحول الديمقراطى.