سمير عطا الله
نصف قرن اليوم، على النكسة: العرب يشعلون حرب الكلام فتلتف عليهم إسرائيل وتبدأ حرب الميراج. تخدع الجميع فيما الجميع يكشفون أوراقهم. وتحتل سيناء والجولان والقدس والضفة الغربية. وتحتل كرامة العرب. وما كان «لا صوت يعلو على صوت المعركة». صمت حزين في «صوت العرب». لكن الهزيمة ظلت فعلاً نكسة، لأن الكبرياء العربية تماسكت. والنفس العربية تجلدت. والروح المعنوية رفضت السقوط.
والآن، بعد 50 عاماً، أفكر أنه لو استقال جمال عبد الناصر فعلاً ذلك التاسع من يونيو (حزيران)، لوقعت كارثة. وانهار الجيش. ودخلت مصر في متاهة داخلية مريعة. لكن بقاءه جعل مصر تتجرع حجم ما حدث. فمرت في سلام وعلى مضض أخطاء عبد الحكيم عامر. وفي ألم صامت، دفنت مصر شهداءها. وبقي مغلقاً بإحكام باب الانقلابات العسكرية والشوارع المدنية.
قال النقاد يومها إن استقالة عبد الناصر والعودة عنها كانت مسرحية. لكن عندما نفكر فيها اليوم نجد أنها مسرحية ذكية، أنقذت مصر، وحدَّت من حجم الكارثة، وحالت دون انفراط العرب جراء ما حدث. ونسي العرب الخلافات السياسية المعهودة حماية لوحدة مصر. وأبلغ الملك فيصل بن عبد العزيز إلى وزير إعلامه الشيخ جميل الحجيلان، أنه لا يريد أن يقرأ كلمة شماتة واحدة، ليس فقط في الصحف، بل حتى على جدار.
أدرك العرب أن الخسارة عامة. وقد دفع المصريون والسعوديون والأردنيون غالياً ثمن الخداع الهائل. دفعوا من المال والأرواح والدماء والكبرياء. ومع ذلك، فإن الخديعة قد هزمتهم. وعام 1973، استخدم أنور السادات الوسيلة نفسها. ومن يقرأ تاريخ 6 أكتوبر (تشرين الأول) كما كتبه الإسرائيليون، يرى أن السادات استطاع أن يخدع خداعاً تاماً قادة 67 من غولدا مئير إلى موشيه دايان. جميعاً رفضوا أن يصدقوا أن الجيش المصري يستعد لعبور قناة السويس برجاله ودباباته رغم افتقاره إلى القوة الجوية اللازمة، ورغم الفارق في تقدم السلاح بين مصر وإسرائيل. وعندما أيقنوا أخيراً، كان الجيش المصري قد أصبح على الجانب الآخر من القناة في عمل عسكري مذهل، دمَّر معنويات إسرائيل قبل سلاحها.
هذه المرة رفض العرب أن يصدقوا ما حدث. وقال بعضهم إنها «مسرحية». وكان ذلك عيباً في حق القائلين. ولعل هؤلاء - لعل - قرأوا الرواية الرسمية الإسرائيلية والأميركية لملحمة القوات المصرية. ولعلهم يقرأون مذكرات الدكتور عبد القادر حاتم، الذي تولى الإشراف على خداع إسرائيل وإقناعها بأن مصر منصرفة إلى سماع أم كلثوم، والتنزه على النيل.
لكي نقرأ التاريخ جيداً، يجب أن تقوم مسافة بيننا وبينه. يجب أن نعيد الآن، ويعقل، قراءة الفرص والضياع.. . .
التعليقات