عبد العليم محمد
لا يزال ميراث الحقبة الاستعمارية بآثاره المعنوية والمادية والأخلاقية ماثلا فى الذاكرة التاريخية، سواء فى البلدان المستعمِرَة أو البلدان المستعمَرة، هذا الميراث يستعصى على النسيان لأنه انطوى على مزيج مركب من الدم والاستغلال والتهميش والاحتقار والعنصرية والجرائم التى ارتكبت فى حق الشعوب المستعَمرة.
يثور الجدل حول هذا الميراث حينا ويتوارى حينا آخر، ولكنه يظل باقيا وحيا على الجانبين، فى فرنسا سار هذا الجدل فى مسارين متناقضين أولهما، عبر عنه الرئيس «إيمانويل ماكرون» الفائز فى الانتخابات الرئاسية، ففى أثناء حملته الانتخابية وصف هذا الميراث بأنه جرائم ضد الإنسانية، وانطوى على وحشية وبربرية، وفى زيارته للجزائر فى فبراير الماضى طالب بلاده بضرورة الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية، وعلى النقيض من هذا المسار حاول مرشح اليمين الذى خرج من السباق الرئاسى فى الدور الأول «فرانسوا فيون» التقليل من جرائم الاستعمار بقوله «إن فرنسا لم تكن مذنبة حين أرادت مشاركة ثقافتها مع شعوب إفريقيا».
تلك التصريحات مجرد عينة من الاختلاف والجدل بشأن النظر إلى ميراث الحقبة الاستعمارية، ولكنها مع ذلك عينة تنطق بالكثير المستتر وراءها من الحجج والنظرات المختلفة، فالرئيس الفرنسى بمطالبته بالاعتذار وتوصيف جرائم الحقبة الاستعمارية بالوحشية والجرائم ضد الإنسانية يعبر عن الكثيرين الذين يرون فى هذه الحقبة استثناء فى التاريخ الفرنسى، استثناء يستعصى على الاندماج فى التاريخ الفرنسى العام، ويقف بحدة وتناقض مع قيم الحرية والإخاء والمساواة والكرامة، وهى القيم التى لا تزال تتمسك بها الجمهورية الفرنسية وتمنحها دورا رمزيا فى تاريخ القارة الأوروبية والعالم، وذلك تأسيسا على ما انطوت عليه هذه الحقبة خاصة فى بلد كالجزائر من مذابح وإبادة وقتل وعنف ممنهج ضد المواطنين الجزائريين، ويرى هؤلاء أن الاعتراف بهذه الجرائم والاعتذار عنها سوف يسمح للفرنسيين باستيعاب هذه الفترة والتصالح معها، وبدء صفحة جديدة مع التاريخ، تصريحات الرئيس الفرنسى تعبر بجلاء وبشجاعة أخلاقية عن هذه الروح وهذه النظرة التى تحاول تجاوز أخطاء الماضى والتطلع إلى المستقبل.
بينما فى حالة مرشح اليمين الخاسر ونظرته لهذه الحقبة الاستعمارية تكشف بجلاء عن الروح العنصرية والمتعالية إزاء شعوب المستعمرات، وتمجد نزعة التحضر والمدنية والثقافة كرسالة حملتها فرنسا الاستعمارية، ويتجاهل بوضوح الممارسات الأخلاقية والعنيفة والهمجية التى سادت إبان الحقبة الاستعمارية. يتحدث ممثل اليمين الفرنسى فى الانتخابات الفرنسية وفى خلفيته القانون الصادر فى فرنسا عام 2005 فى الثالث والعشرين من فبراير، والذى يشيد بالجوانب الإيجابية للاستعمار الفرنسى فى الجزائر والمغرب وتونس، وفى تلك الأقاليم التى تعرف بأقاليم «ما وراء البحار».
تضمن هذا القانون فى مادته الرابعة النص على ضرورة اعتراف مناهج التعليم بالدور الإيجابى لوجود فرنسا فى هذه الأقاليم ومنح التاريخ والتضحيات التى قدمها الفرنسيون خلال هذه الحقبة المكانة التى يستحقونها.
وقد صدر هذا القانون عن الجمعية الوطنية الفرنسية وهو ما يمنحه طابعا وطنيا عاما، ويستهدف هذا القانون إدماج هذه الحقبة فى السياق التاريخى العام ويزيل عنها الطابع الاستثنائى والتناقضات التى انطوت عليها.
دعوة الرئيس الفرنسى فى أثناء حملته الانتخابية لم تتحدد معالمها بعد، فى سياق تشريعى وسياسى، يمكنه أن يدعم هذه الدعوى، ويؤكد طابعها الإنسانى والأخلاقى، وربما يتطور هذا الأمر فى المستقبل نحو تبنى واعتماد وطنى لمضمون هذه الدعوة، خاصة أن الرئيس الجديد يحظى بالشرعية والشعبية والتمثيل البرلمانى لحركته «إلى الأمام» فى السلطة التشريعية، وبمقدوره أن يستقطب تعاطف العديد من المنظمات الحقوقية والإنسانية التى ناهضت صدور القانون المذكور واحتجت ضد صدوره وكذلك العديد من الفئات المثقفة التى تنتمى للتيار الإنسانى والمستنير والليبرالى فى فرنسا.
وهذا المسار هو وحده الذى يضفى على آراء الرئيس الفرنسى المشروعية، وينفى عنها الطابع التكتيكى والانتخابى الذى أخذه عليه معارضوه عند صدورها.
تصريحات الرئيس الفرنسى بشأن الاعتذار عن الاستعمار تكسر الأحادية التى تميز الموقف الفرنسى الرسمى إزاء هذه القضية حتى الآن، ذلك أن الرؤية الأحادية والتأويل الأحادى لوقائع التاريخ شأن يخص الدول الشمولية والاستبدادية التى تستهدف تسييد رؤية أحادية للوقائع والأحداث، وتخلق مسارًا جديدًا لرؤية أخلاقية وإنسانية.
يتطلب الأمر تطبيق معيار واحد لقياس المعاناة الإنسانية والتعامل معها سواء تعلق الأمر بالجزائريين أو باليهود، وربما يكون ذلك مغزى دعوة ماكرون وربما يكتب لهذه الدعوة النجاح بشرط ابتعادها عن البغضاء والكراهية والانتقام وحصولها على الإجماع الوطنى.
أما فيما يتعلق بالدول المستعَمرة فإن مطلب الاعتذار عن الاستعمار يعد مطلبا حيويا على الأقل من زاوية رد الاعتبار لهذه الدول وشعوبها واحترام تضحيات أبنائها وأسلافهم من أجل الحرية والمساواة، ويعتبر مطلب الاعتذار عن الاستعمار ضرورة أخلاقية وإنسانية لتجاوز الماضى الاستعمارى بآثاره المعنوية والمادية وإذا كان العالم اليوم يتجه للتوحد فى ظل العولمة والحضارة العالمية الواحدة والثقافات المختلفة فإن الاعتذار عن هذه الحقبة هو خطوة على الطريق نحو التحرر من أعباء الماضى وتجاوز المآسى وتنقية التاريخ الإنسانى مما شابه من مظالم وعنصرية وأحكام مسبقة ومتحيزة بهدف التطلع لبناء المستقبل وتحريره من العقبات.
التعليقات