محمد السعيد إدريس

نستطيع أن نقول الآن، وبدرجة ما من الثقة، إن الحرب فى سوريا قد انتهت، والحرب التي، كانت فى حقيقتها، حرباً لإسقاط النظام، قد انتهت. فلم تعد الأطراف الأساسية فى هذه الحرب ترى أن معركتها فى سوريا الآن هى إسقاط النظام، لا الولايات المتحدة ولا فرنسا ولا تركيا ولا إسرائيل ولا حتى السعودية أو قطر، ولا المنظمات الإرهابية والجهادية. أضحت معركة القوى الدولية والإقليمية الآن ضد الإرهاب (داعش والنصرة بشكل حصرى) إضافة إلى أن الصراع بدأ يتحول من صراع فى سوريا لإسقاط النظام إلى «صراع على سوريا» من أجل تحديد حصة كل طرف، وهندسة سوريا الجديدة بعد الحرب بما يحقق أقصى مكاسب لكل من هذه الأطراف، بما فيها المنظمات الإرهابية والجهادية التى بدأت تتصارع مع بعضها البعض وتصفى بعضها البعض وتفكك تحالفاتها، وتنسج تحالفات جديدة فى تجربة مريرة شبيهة بما سبق أن حدث فى أفغانستان من أجل تثبيت مكان لها فى سوريا الجديدة كشريك فى الحكم وإدارة الدولة. 

هؤلاء كلهم، بشكل أو بآخر، مهزومون، ويحاولون جميعاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مكاسب فى سوريا الجديدة. وفى المقابل هناك المنتصرون أو «جبهة المنتصرين»: روسيا وإيران و«حزب الله» ونظام الرئيس الأسد. وجميع هؤلاء المهزومين والمنتصرين، يحاولون، قدر استطاعتهم، إعادة تشكيل الواقع العسكرى والأمني، ثم الواقع السياسى، وهذا هو الأهم، بما يحقق أفضل المكاسب، الأمر الذى يعنى أن المنتصرين لن يكونوا أحراراً فى فرض ما يريدون، هناك ضوابط، وأدوات تأثير قوية لدى كل الأطراف، وهناك تشابك فى المصالح داخل سوريا وخارجها تفرض إعطاء مساحة لكل الأطراف أن تكون شريكة فى تحديد معالم سوريا الجديدة. 

المؤشرات على ذلك كثيرة ومن أبرزها: 

إعلان الولايات المتحدة رسمياً تخليها عن دعم المعارضة السورية بشقيها السياسى والعسكري، وإغلاق البرنامج السرى لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) لتسليح المعارضة ودعمها، ما يعنى تسليم سوريا، أو الجزء الأكبر منها، للروس والرضوخ لسياساتهم وبرامجهم، والتسليم نهائياً ببقاء الرئيس بشار الأسد وحكومته، ولو إلى حين. هذا التحول ليس طوعياً، ولكنه وليد حسابات معقدة للإدارة الأمريكية وليس فقط لأن برنامج دعم المعارضة الذى كانت تقوم به المخابرات الأمريكية «مكلف وخطير وغير فعال» على نحو ما كتب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على حسابه الخاص فى «تويتر» رداً على انتقادات حادة لمسئولين أمريكيين وخبراء نشرتها صحيفة «واشنطن بوست»، بدليل ما ورد على لسان مصادر مسئولة فى «الجيش السورى الحر» المعارض قالت إن الولايات المتحدة أبلغت الفصائل المسلحة، العاملة فى جنوب سوريا، أنها سوف توقف الدعم المقدم لها، لتعزيز وقف إطلاق النار والتفرغ لقتال «داعش»، كما أفادت بأن مسئولين أردنيين وأمريكيين وروسيين اجتمعوا مع ممثلى تلك الفصائل على مدى ثلاثة أيام فى العاصمة الأمريكية، وطلبوا منهم «التوقف عن قتال النظام والتفرغ لقتال (داعش)». 

التحول الملحوظ فى الموقف الأوروبى والفرنسى على وجه الخصوص فى موضوع بقاء الرئيس بشار الأسد. فالرئيس الفرنسى الجديد إيمانويل ماكرون أعلن عن تحول كبير فى الموقف الفرنسى وكانت له تفاهماته بهذا الخصوص فى لقائه مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب. هناك أسباب كثيرة لهذا التحول أبرزها بالطبع تغير موازين القوى العسكرية داخل سوريا بعد معارك حلب لمصلحة تحالف «روسيا- إيران- حزب الله - النظام السوري»، إلى جانب أسباب أخرى محفزة منها: عدم وجود بديل جاهز لدى المعارضة، وتفكك وحدة هذه المعارضة، وخطورة «البديل الإسلامي»، والحرص على ضرورة تجنب «خيار الفوضى» العراقية بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين وما أنتجته من ظواهر إرهابية. 

التغير فى الموقف السعودى من موضوع «إسقاط النظام» فى سوريا، لأسباب كثيرة، أبرزها على الإطلاق التحول فى الموقف الأمريكى من الأزمة السورية فى ظل التفاهمات الأمريكية الروسية، ووقف واشنطن دعمها العسكرى والسياسى للمعارضة، والتركيز على الحرب ضد «داعش» والتحالف مع أكراد سوريا، ناهيك عن انشغالات السعودية فى حربها باليمن، والأزمة الممتدة مع قطر، وانعكاسات هذه الأزمة على التنسيق السعودي- القطرى فى دعم ورعاية فصائل المعارضة. التغير فى الموقف السعودى جاء اضطرارياً وخضوعاً لحقائق الأمر الواقع وبالذات معادلة توازن القوى العسكرى والسياسى لغير مصلحة حلفاء السعودية، وعبر عادل الجبير وزير خارجية السعودية عن هذا التغير فى لقائه حلفاء السعودية من فصائل المعارضة السورية ومطالبته لهم بضرورة «الخروج برؤية جديدة تتماشى مع الوقائع على الأرض والوضع الدولى الجديد»، وتحذيره للمعارضة من أنه فى حال عدم حصول ذلك «فإن الدول العظمى قد تبحث عن حل خارج المعارضة». ومطالبته للمعارضة بدعوة «منصتى القاهرة وموسكو» لاجتماع الهيئة العليا للمفاوضات السورية المقبل فى الرياض. وعلى الرغم من صدور بيان للخارجية السعودية يكذب بعض هذه المعلومات إلا أن إصرار السعودية وعلى لسان الجبير نفسه «بحتمية رحيل الأسد سلماً أو حرباً» لم يعد له وجود فى ظل المعادلات الجديدة. 

إدراك تركيا لأهمية تقوية تحالفها وتعويلها على موسكو وليس على واشنطن فى ظل خطر تطلع الأكراد، بدعم أمريكي، لإقامة فيدرالية كردية فى شمال سوريا، الأمر الذى أخذ يفرض على تركيا إعطاء الأولوية لمنع امتداد خطر هذا التطلع الكردى إلى داخل تركيا على حساب أولوية إسقاط النظام فى سويا، وتجديد التحالف مع إيران لمواجهة خطر التطلع الكردى الانفصالي، وهو تحالف أخذ يفرض تداعياته على التفاهمات التركية مع كل من روسيا وإيران فى سوريا. 

هذه التطورات أخذت تعكس نفسها على المسارات السياسية لحل الأزمة السورية، حيث تسعى الأطراف إلى بلورة معالم سوريا الجديدة عبر تفاهمات: روسية- إيرانية- تركية فى أستانا، وعبر تفاهمات: روسية- أمريكية- أردنية فى عمان، تقود كلها إلى بلورة تسوية الأزمة فى جينيف، لكن هذا لا يعنى غياب الصراع، بل إنه أخذ فى التفاقم على سوريا من أجل المصالح ومناطق النفوذ عبر هذه المسارات وخارجها وهو صراع سوف ينعكس كلياً على هندسة التحالفات فى الشرق الأوسط. فى ظل تحفزات أطراف أخرى أبرزها إسرائيل المتوجسة من كل ما يحدث، والساعية إلى فرض شروطها فى كل ما يحدث فى سوريا حفاظاً على ما تعتبره «مصالح مشروعة».