عبدالعزيز السماري

يأخذ مصطلح المعارضة في السياسة حيزاً كبيراً في العرف السياسي المعاصر، ويعني أن جماعة أو مجموعة أفراد يختلفون مع الحكومة التنفيذية، لكن في الثقافة العربية لم يكن الأمر كذلك، فقد درسنا في تاريخ العرب أن المعارضة تعني التقويض أو الهدم لكيان الدولة، ثم الانتقام الدموي من السلطة السابقة، وهو ما يُقدم على أنه ثمن الشرعية القادمة..

أدى ذلك إلى مهالك وضياع للمكتسبات في التاريخ العربي، وقد تحول بفعل التكرار المستمر لنفس الأدوات إلى نظرية سياسية تاريخية، أطلق عليها ابن خلدون الدورة العصبية، وهي عصبية سياسية تقوم على القبيلة والعقيدة، ترفع من خلاهما المعارضة منهج التكفير والقتل، وهو ما يجعل من هذا التاريخ أقرب إلى دوامة الرعب والهلاك.

أكاد أجزم أن هذه العلة التاريخية كانت أهم أسباب سقوط الحضارة العربية، فالحضارة كانت معلقة بحضارة الفرد، وكلما انهارت سلطة تنهار خلفها جميع المكتسبات في صورة أقرب لأحجار لعبة الدومينو، لكن الذي يتغير في هذا الزمن أن الوعي الإنساني في جنوب المتوسط ربما تطور نسبياً، وأصبح يبحث عن ثنائية الاستقرار والأمن، ويصبو إلى وطن يحتضن الجميع، و لا تغيب عنه شمس الحضارة.

عندما أفتش في بعض دفاتر المعارضة أو من تعتقد أنها معارضة في بعض الدول العربية أجد مفارقات تاريخية، فالماضي الذي يقوم على دعوات التكفير من أجل استباحة الدماء متواجد بقوة في الساحة، ويغذيه تاريخ متكرر من مشاهد سحق الجماجم والدماء التي سالت بسبب فتاوي التكفير، وعادة ما يقوم على المزايدة في ذهنية التحريم، وهو ما قد يعطيها الشرعية شعبياً، فالثقافة الشعبية تؤمن أن أقدرهم على التحريم أقربهم إلى الله عز وجل، وذلك غير صحيح مطلقاً، لكنها ما زالت وسيلة سياسية مجدية.

الاتجاه الآخر فيما يُطلق عليه بالمعارضة تيار شوارعي لا يعرف غير وسائل الشتم والسب والقذف، وتلك علامة على انحطاط الأخلاق والوعي السياسي، وهي طريقة أشبه بمسرحيات الكوميديا الهزيلة، وتمثل فكر شوارعي إجرامي هدفه زعزعة الأخلاق في المجتمع، ولا تختلف كثيراً عن الطرف الآخر المتعطش للدماء.

كذلك لا يمكن إخفاء حقيقة عدم استقلال المعارضة في العرف العربي المعاصر، فدوماً ما تأتي وفودها ورموزها عبر بوابات خارجية، لها أهداف وأطماع سياسية مختلفة، ولدينا من الأمثلة المعاصرة على ذلك، فالعراق جاءت المعارضة الخارجية محمولة على مدرعات الجيش الأجنبي، وكانت النتيجة تحول البلاد إلى فوضى وعنف واقتتال لا يتوقف بسبب تداخل مصالح القوى الخارجية على ساحة الوطن العراقي.

في ليبيا، لا يختلف اثنان أنه البلد العربي الذي تحول إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، وأشعر بالأسف والتعاطف مع الشعب الليبي الذي أصبح ضحية أطماع سياسية خارجية، فالقوى السياسية الحالية غير مستقلة، ويغذيها الخارج من أجل مصالح غير ليبية، والخاسر الأكبر هو الشعب الليبي.

كان من أخطاء بعض القيادات العربية التي قامت فيها الثورات أنهم تجاوزوا القضايا المهمة مثل التنمية والتعليم، فكان المنتج وعي سياسي مشوه، وغياب تام للمكتسبات عند المواطن، فالشعوب التي لا تملك مقدرات ومستقبل لن تخسر شيئا من إلقاء أنفسها في التهلكة، وهو ما حدث في سوريا والعراق وليبيا..

حدث ذلك بسبب البارانويا السياسية عند السلطة في تلك الدول، التي تعتقد بغباء أن تجويع الشعوب وقتل الحريات النسبية هو بمثابة الأمن السياسي لها، وذلك غير صحيح، فالحرية النسبية مطلوبة من أجل تطور الوعي السياسي في المرحلة، بينما التنمية الاقتصادية وتطور دخل الفرد تعني الضمان الأكبر للأمن الوطني..

قد تتضح الصورة لنا أكثر عند متابعة مراحل الانتخابات في دول الغرب المتطورة، فالتنافس السياسي هو دوماً حول ضمانات فرص العمل والتأمين الصحي والاجتماعي، وذلك من أجل أن يظل أمن الدولة غاية قصوى في حياة المواطن، لأنهم يدركون أن الشعارات في نهاية المطاف لا يمكن أن تتحول إلى أمن واستقرار ما لم يصاحبها عمل دؤوب في الداخل..

بإيجاز من خلال نظرة متأنية للمعارضة في المشهد العربي، سنكتشف أنهم لم يخرجوا بعد من ظلمات التاريخ السياسي العربي الملطخ بالخيانة والتكفير والدم.. حفظ الله الوطن.