&فتحــى محمــود

حينما اختار الملك المؤسس أن تكون مصر وجهته فى أول زيارة رسمية له خارج المملكة، كان يدرك تماما أهمية هذا الاختيار الذى أصبح بعد ذلك استراتيجية دائمة للسعودية. ففى السابع من يناير عام 1946 زار الملك عبد العزيز آل سعود, ملك المملكة العربية السعودية, مصر، وكانت زيارة تاريخية بكل المقاييس، حسبما وصفت صحف القاهرة وقتها، ولاقت ترحيبا سياسيا وشعبيا لا مثيل له. وفور وصول اليخت الملكى المحروسة من جدة الى السويس وعلى متنه الملك عبد العزيز، وجد استقبالا جماهيريا حافلا، واستقل مع الملك فاروق القطار الملكى الى القاهرة، ثم استقلا عربة ملكية مكشوفة إلى قصر عابدين مرورا بشوارع وميادين العاصمة، وقد رحبت به الجماهير فى القاهرة ترحيبا كبيرا.

&وكتب عبد الرحمن عزام باشا فى مجلة المصور أن مصر حين تستقبل الملك عبد العزيز إنما تستقبل رجلا تمر الحقب ولا يرى الناس مثله، مشيرا إلى أن هذه الزيارة ستترك بلاشك أثراً خالداً فى العلاقات السعودية المصرية العربية، وأنها تشكل مثالاً للعلاقات التى تقوى وتنمو بين مصر وملوك العرب وأمرائهم ورؤسائهم فى سائر الأقطار. وقالت الصحف المصرية إنه على الرغم من أن قانون النياشين فى مصر وقتها كان ينص على ألا تهدى لمن لم يبلغ عمره أقل من 21 سنة، غير أن الملك فاروق زيادة فى تكريم أنجال الملك عبد العزيز رأى أن يهدى جميع الأمراء السعوديين المرافقين للملك عبد العزيز الوشاح الأكبر من نيشان النيل.

لقد تعمدت كتابة بعض تفاصيل هذه الزيارة التاريخية، ليعلم من لا يقرأ التاريخ كيف كانت العلاقات المصرية السعودية على المستويين الرسمى والشعبى فى منتهى القوة منذ بدايتها وحتى اليوم. وحتى نعلم مدى حرص الملك المؤسس على العلاقة مع مصر دائما، نقرأ ما كتبه المؤرخ الكبير خير الدين الزركلي، الذى كان مستشارا للمفوضية السعودية فى مصر ومندوبا عن المملكة فى مباحثات إنشاء جامعة الدول العربية، حيث قال: صرفت ثمانية عشر عاما منقطعا لتمثيل الملك عبد العزيز فى مصر من 1353 -1371 هـ وما كتب لى يوما بشأن مصر ولا سمعته يتحدث فى سر أو علن عن مصر إلا بالحرص والحث على حسن العلاقة وتوطيد المحبة والصداقة بين الملك عبد العزيز وبين المصريين حكومةً وشعبًا.

نحن لا نتحدث عن تاريخ ولكن عن واقع ثابت يتجدد دائما مع حركة التاريخ، ويظهر جليا عند أى موقف يتعرض له أى منهما، ونستذكر هنا ما قامت به السعودية لدعم إرادة الشعب المصرى فى ثورة 30 يونيو 2013، عندما وضع المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز كل إمكانات المملكة لدعم إرادة المصريين، وخرج ببيان غير مسبوق قال فيه: إن الصامت عن الحق شيطان أخرس وأن المملكة العربية السعودية حكومة وشعبا تقف إلى جانب شقيقتها مصر، ودعا العرب والمسلمين إلى التصدى لكل من يحاول زعزعة أمن مصر، معتبرا أن من يتدخل فى شئون مصر الداخلية من الخارج يوقدون الفتنة.

وقال الملك عبد الله وقتها إن استقرار مصر يتعرض لكيد الحاقدين والكارهين فى محاولة فاشلة لضرب وحدته واستقراره، وأرسل وزير خارجيته الأمير سعود الفيصل فى زيارات عاجلة لفرنسا ضمن جولة أوروبية لدعم مصر، والتى كان لها أثرها الكبير فى إدراك حقيقة ما يحدث فى القاهرة. لذلك عندما نتحدث اليوم عن دعم مصر للسعودية، فى مواجهة أى ضغوط أو مؤامرات تتعرض لها خارج سياق الحدث، فنحن نعنى الوقوف بكل الطرق والوسائل فى مواجهة أى خطر يتهدد أمن وسلامة المملكة.

قد يحلو للبعض, فى سياق إبراز أهمية العلاقات المصرية السعودية, الحديث عن (المصالح المشتركة)، لكنى اعتقد أن المصطلح الأدق هو (المصير المشترك)، فكل حقائق التاريخ والجغرافيا والثقافة والانثربولوجيا تصب بنا فى النهاية إلى وحدة المصير، وهو ما يوجب على مصر والسعودية وكل الدول العربية التى تجمعها هذه العوامل، اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لدعم التعاون والتكامل بينها لما فيه خير الشعب العربى فى كل مكان.

منذ أيام قليلة كنت أشارك على هامش منتدى المجتمع المدنى الخامس للطفولة، فى جلسة حوارية عن مسيرة الأمير طلال بن عبد العزيز، ذلك الرجل الذى أسس مسيرة تنموية غير مسبوقة فى تاريخ العالم العربى، وأنشأ عشرات المؤسسات التنموية العربية فى المجالات كافة، على رأسها برنامج الخليج العربى للتنمية (أجفند) الذى قام بطفرة كبيرة فى مجال التنمية ومكافحة الفقر بعدد كبير من الدول العربية والإسلامية والنامية، من خلال بنوك الفقراء والمشروعات المتعددة للتنمية. وكذلك المجلس العربى للطفولة والتنمية، الذى يعمل منذ ثلاثين عاما على معالجة جميع مشكلات الطفولة فى المجتمعات العربية بشكل علمى ومن منظور تنموى، ورأيت فى هذا الاحتفال المكانة المميزة للغاية لمصر لدى الأمير طلال، والتى ترجمها عمليا فى مئات المشروعات التى حرص على إقامتها فى مصر عبر مؤسساته المختلفة. وبعدها قرأت تصريحات الأمير عبد العزيز بن طلال مع الزميل إلهامى المليجى فى مجلة الأهرام العربى هذا الأسبوع، والتى قال فيها: مصر هى عشق الوالد، والشعب المصرى اخواننا وأحبابنا وجيراننا، ودائما مانتمنى التوفيق لهذا الشعب العظيم، فالأب والجد كانا يحبان مصر ويقدرونها، وهذه المحبة وهذا التقدير انتقلا إلى الأبناء والأحفاد بعدهما. ووصف الأهرام بأنها صحيفة عريقة ورائدة وتعتبر أساس القراءة اليومية لنا.

إن الحديث عن العلاقات المصرية السعودية يطول، لكن الأهم فى نظرى العلاقات الشعبية التى لا تتوافر فى نماذج كثيرة للعلاقات بين الدول، فلا يوجد منزل فى مصر ليس لأحد أفراده ذكريات مع السعودية، والعكس صحيح، لا يوجد بيت سعودى ليس لأحد أفراده ذكريات مع مصر. هذه هى العلاقات الحقيقية التى لا تفنى، والتى تقود إلى المصير المشترك.