& علي العميم

إذا ما ذهبنا إلى القارة الهندية، فإن فتوى شاه عبد العزيز الدهلوي الداعية إلى الجهاد في مستهل القرن التاسع عشر، كما رأينا في مقالات سابقة، لم تمر بأطوار فيها نمو وصعود أو – حسب تعبير أستاذنا رضوان السيد – تنامٍ، فهي قد قبلت فوراً عند كثير من مسلمي الهند، ونشأت استجابة لها حركات جهادية طوال عقود طويلة من ذلك القرن. ولم يبرز رأي يبطل الجهاد ودواعيه إلا في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان أول من قال به في تلك البلاد وفي العالم الإسلامي قاطبة السيد أحمد خان.
يقول أستاذنا رضوان السيد - وهو يتحدث عن الشيخ شلتوت وكتابه (القرآن والقتال) - :«بل نبه – أيضاً – إلى خطر التكفير، وبالتالي الجهاد على الداخل المسلم، بسبب عودة مفهوم الولاء والبراء، والذي لا يتناول غير المسلمين فقط، بل يتناول مسلمين آخرين أيضاً يختلف معهم المتشددون في الرأي والاعتقاد! لقد حصل ما توقعه شلتوت، عندما انتشرت ظواهر تكفير الحكام والأنظمة والمجتمعات، واستحلال ممارسة العنف ضدها... إلخ».


يؤسفني أن أقول إن ما ذكره في قوله هذا لا يوجد أي شيء منه في كتاب شلتوت. فالكتاب – كما فصلنا في مقال سابق – جاء ضمن سياق مختلف جداً عن السياق الذي توهمه أستاذنا.
ولتذكير أستاذنا العزيز، فإن الشيخ محمود شلتوت حين صدر كتابه (القرآن والقتال) لم يكن شيخ الأزهر، فشيخ الأزهر في ذلك الوقت كان محمد مأمون الشناوي. فالشيخ شلتوت تولى منصب شيخ الأزهر عام 1958 إلى وفاته عام 1963.
أخلص من العرض الذي قدمته لقضية حصر الجهاد بالجهاد الدفاعي، أو ما سماها أستاذنا رضوان بنقيضها، وهو ربط الجهاد بالكفر، أن تلك القضية بدأ القول فيها في العالم العربي في مستهل القرن العشرين، وأنها قد لقيت قبولاً وانتشاراً واسعاً منذ ذلك التاريخ. وأنها نشأت في معرض الدفاع عن الإسلام إزاء ما يقوله عنه الساسة الاستعماريون والمستشرقون والمبشرون. وأن أقوى ما فيها - وأنا أعني هنا أن الدعوة إلى الإسلام مع بزوغ حرية الاعتقاد والحرية الدينية في العالم الغربي لا تحتاج إلى جهاد أو حرب أو غزو - هو الأدلة العقلية وليس الاستناد إلى النصوص الدينية وإلى أقوال الفقهاء والمفسرين والمتكملين. وأن تلك القضية بدأ القول فيها في الهند في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، أولاً، لسبب عملي، وهو الضرر الذي ألحقته حركات الجهاد الإسلامي بمسلمي الهند في ظل حكم شركة الهند الشرقية البريطانية وفي ظل حكم التاج البريطاني، وثانياً للسبب نفسه الذي كان وراء نشأتها فيما بعد في العالم العربي. لكنها لم تحظ عند مسلمي الهند بالقبول والانتشار الذي حظيت به في العالم العربي.
حدد أستاذنا رضوان - كما قد مر بنا – تنامي قضية ربط الجهاد بالكفر في العالم الإسلامي ما بين عامي 1848 و1849. وهذا التحديد – بالنسبة إلى العالم العربي الذي هو جزء من العالم الإسلامي – خاطئ جداً، فتناميها وصعودها كان في سبعينات القرن الماضي. أو على وجه التحديد ابتداء من عام 1969، وهو العام الذي جمع فيه الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية – تنظيم فرعي للإخوان المسلمين – مواد مكتوبة للمودودي وحسن البنا وسيد قطب عن الجهاد في كتيب صغير اسمه (الجهاد في سبيل الله) طبع في بيروت، وترجم إلى اللغة التركية واللغة الماليزية، وأعدت طبعة خاصة منه لتكون ضمن المكتبة المدرسية في وزارة المعارف السعودية. وهو العام الذي أقرت فيه رسمياً وثيقة (سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية) التي صاغها الإسلاميون، وكان الجهاد بالمفهوم المودودي والقطبي ركناً ركيناً فيها.
وكان المتغير الجديد في السبعينات الميلادية وأول الثمانينات الميلادية أن الجهاد بالمفهوم المودودي والقطبي لم يعد قاصراً على كتب دينية عامة، والتي تكاثرت ابتداءً من عقد السبعينات، بل أعدت ضمن فلكه رسائل ماجستير ودكتوراه في جامعات في أكثر من بلد عربي. وفي هذه الرسائل يرد قول الشيخ محمود شلتوت في الجهاد – أي القول بالجهاد الدفاعي – وقول مشايخ آخرين سبقوه كالشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا، وقول مشايخ آخرين هو عاصرهم وهم عاصروه كالشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ أحمد مصطفى المراغي والدكتور محمد عبد الله دراز والشيخ محمد أبو زهرة. وقول فقهاء جاءوا بعده كالدكتور صبحي المحمصاني والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدكتور وهبة الزحيلي وآخرين.
في إحدى هذه الرسائل، وكان المشرف عليها محمد قطب، خصص صاحب الرسالة باباً في رسالته سماه (موقف تلاميذ الاستشراق والاستعمار من أحكام الجهاد)، وكان في طليعة موضوعات هذا الباب المكونة من أحد عشر موضوعاً، موضوع (قصرهم الجهاد على جهاد الطلب). في هذا الموضوع عزا قصر رواد المدرسة العقلانية الجهاد على جهاد الطلب إلى تفاهمهم مع الاستعمار وأدواته ومع الصهيونية والماسونية لأجل صرف المسلمين عن المفاهيم الإسلامية الصحيحة!
العجب كل العجب أن صاحب الرسالة والمشرف عليها – وهما يسوقان ذلك الاتهام السخيف – تجاهلا أن رأي الإسلاميين يتطابق مع رأي الساسة الاستعماريين والمبشرين وجملة من المستشرقين بأن أحد بواعث الجهاد الإسلامي هو علة الكفر، وليس الدفاع عن ديار الإسلام.
كما أعدت ابتداء من عقد السبعينات وفق المفهوم المودودي والقطبي للجهاد وضمن أنظومة وذهنية القرون الإسلامية الوسيطة، رسائل ماجستير ودكتوراه في موضوعات كالولاء والبراء ودار الإسلام ودار الكفر والردة.


إن ما قادني إلى هذه المناقشة التفصيلية لبعض ما ورد في مقال أستاذنا رضوان السيد (دعوات تجديد الخطاب الديني) المنشور في صحيفة «الاتحاد» الظبيانية، هو اتكاء الباحث السوري عليه في خاتمة بحثه، الذي كان عنوانه (دور فكرة الجهاد في تأصيل ثقافة التطرف لدى أتباع التيار السياسي الإسلامي).
فهذا الباحث رأى في خاتمة بحثه أن المشكلة التي حدثت عبر تاريخ تشريع وتأصيل فكرة الجهاد علمياً في تاريخنا السياسي العربي والإسلامي حتى اليوم، هي ارتباط الجهاد بقضيتين تم التلاعب بهما، وهما: اعتبار الجهاد هجومياً وليس دفاعياً. وهذه هي القضية الأولى. وربط الجهاد بالكفر. وهذه هي القضية الثانية التي كان فيها الاتكاء على بعض ما قاله أستاذنا في ذلك المقال، مع أن ما قاله ليس صحيحاً جملة وتفصيلاً. وهذا ما فصلنا الحديث به في مقالات سابقة وفي كلامنا السابق.
إن الناظر في هاتين القضيتين بقدر يسير من التمعن، سيجد أنهما قضية واحدة لا اثنتان. فاعتبار الجهاد هجومياً وليس دفاعياً استند إلى ذريعة ربط الجهاد بالكفر، وهي الذريعة التقليدية التاريخية الشائعة عند كثير من علماء المسلمين الأقدمين والشائعة عند علماء المسلمين المتأخرين. والشائعة عن علماء المسلمين والمشايخ في القرن الماضي في العالم العربي الذين لم يستجيبوا لقول محمد عبده ورشيد رضا في الجهاد والذين لا يعرفون أساساً ماذا قال أصحاب المدرسة الإسلامية العقلانية، سواء أكانوا من الهند أو من مصر في حصر الجهاد بالجهاد الدفاعي. واستند إلى تأويل مماحك ومتحاذق واستعلائي لمعنيي الدين والأمة، قال به أرسطو الإسلاميين، أبو الأعلى المودودي في كتيبه (الجهاد في سبيل الله) وتابعه فيه شارحه سيد قطب في كتابه (في ظلال القرآن).
وهذه الذريعة الجديدة المحدثة التي قال بها المودودي وتابعه فيها سيد قطب لا تعول على الذريعة التقليدية التاريخية، وهي ربط الجهاد بالكفر، ولا تذكرها على نحو واضح ومباشر. أما المتأثرون بأرسطيهم وبشارحه فهم يجمعون بين الذريعة التقليدية التاريخية وبين الذريعة الجديدة المحدثة، أو الذريعة المودودية.


يقول المودودي في تفسير الجهاد الإسلامي في الماضي وفي تسويغ استئنافه في الحاضر وفي استمراريته في المستقبل: «إذا أنعمنا النظر في المسألة من الوجهة العلمية ودققنا النظر في الأسباب التي أشكل لأجلها استجلاء حقيقة الجهاد في سبيل الله، واستكناه سرها على المسلمين أنفسهم، فضلاً عن غير المسلمين، لاح لنا أن مرجع هذا الخطأ إلى أمرين مهمين لم يسبروا غورهما، ولم يدركوا مغزاهما على وجه الحقيقة: فالأول أنهم ظنوا الإسلام نحلة بالمعنى الذي تطلق عليه كلمة النحلة Religion عامة. والثاني أنهم حسبوا المسلمين أمة Nation بالمعنى الذي تستعمل فيه هذه الكلمة في عامة الأحوال».
ويخلص بعد هذه المصادرة التي نفى فيها أن يكون الإسلام نحلة أو مذهباً دينياً أو دينياً بالمعنى الذي كانت عليه الأديان السابقة، ونفى أن يكون فيها المسلمون أمة أو طائفة كالأمم أو الطوائف الدينية التي تكونت قبل تكون أمة أو طائفة المسلمين وبعد تكونها، أقول يخلص بعد هذه المصادرة، وبعد شرح شيء مما جاء فيها إلى استكناه حقيقة الجهاد في سبيل الله التي خفيت على المسلمين منذ الصدر الأول منه، إلى أن كتب هو عن الجهاد، فانجلت وتجلت له وحده تلك الحقيقة!
هذه الحقيقة هي - كما قال -: «فإن كان الإسلام نحلة كالنحل الأخرى والمسلمون أمة كغيرهم من أمم العالم، فلا جرم أن الجهاد الإسلامي يفقد جميع المزايا والخصائص التي جعلته رأس العبادات ودرة تاجها. لكن الحقيقة أن الإسلام فكرة انقلابية ومنهاج انقلابي، يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره، ويأتي بنيانه من القواعد ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي. ومن هناك تعرف أن لفظ المسلم وصف للحزب الانقلابي العالمي الذي يكوِّنه الإسلام وينظم صفوفه ليكون أداة في إحداث ذلك البرنامج الانقلابي، يرمي إليه الإسلام ويطمح إليه ببصره. والجهاد عبارة عن الكفاح الانقلابي، عن تلك الحركة الدائبة المستمرة التي يقام بها للوصول إلى هذه الغاية وإدراك هذا المبتغى»، وللحديث بقية.