إيلي الحاج
لا يزال البحث جارياً في قرية محمرش البترونية عن جزء مفقود من حديث الوزير جبران باسيل المتسرّب، سئل فيه عن "حزب الله" فأجاب "نقول رأينا صراحةً أعجبه أو لا"، أو كلمات من هذا القبيل لا تثير حساسية، خلافاً لما تناول به الرئيس نبيه بري، لكنها تؤشر إلى مرحلة جديدة في التاريخ السياسي لـ"التيار الوطني الحر".
لا تكذّب مواقف اتخذها باسيل أخيراً ما قاله في الجزء المفقود من الشريط. من إبداء استعداد لفتح سفارة لبنانية في القدس الشرقية متى اعترفت إسرائيل بالحقوق المشروعة للفلسطينيين وتحقق الحل، إلى إعلان عدم وجود موقف أيديولوجي لدى تياره من وجود إسرائيل، ورفض منع عرض فيلم "ذا بوست" رغم أن الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله هو الذي طرح الموضوع. يخرج بذلك رئيس "التيار الوطني الحر" عن التحفظ ومسايرة الحليف الأكبر. هل يعني هذا التمايز ابتعاداً عن الحزب؟ تعامل الخارجية اللبنانية مع مواقف الدول العربية والإسلامية في المؤتمرات المقبلة، والمخصصة لإدانة إيران والمزيد من التضييق على "حزب الله"، وكذلك الانتخابات النيابية، سوف تحمل إجابات. وأيضاً المواقف من العقوبات الدولية الإضافية التي ستُفرض على الحزب.
يبني الوزير باسيل جسراً
بين ماضي الرئيس ميشال عون
ومستقبله هو
الثابت أن "العونية"، وقد باتت نهجاً على غرار ما كانت "الشهابية"، بنت في صراعها مع رئيس مجلس النواب على أن "حزب الله" سيقف على الحياد بين حليفيه السياسيين، وتبيّن لها أن هذا الاعتقاد كان خاطئاً لأسباب تتعلق بضرورة وحدة الطائفة في مرحلة تراها ملأى بالتحديات أمامها.
ولكن يخطئ من يظن أن خسارة موقتة في ظرف محدد، سياسي في حالة الوزير باسيل - خسارة تتمثل في انكفاء بعض أهل بيته السياسي والأصدقاء والحلفاء أمام "هول الصدام" مع بري- سوف تدفع رئيس "التيار" إلى التراجع. يدرك الوزير الشاب أن التراجع سيوصل إلى فقدان رصيد ربحه من غير أن يقصد. وما دام ارتقى سلم التصعيد، فالأفضل أن يتوقف عند الدرجة التي يقف عليها ومراقبة الوضع. وها هو يراقب من أبيدجان، الحامل مؤتمرها رمزية تحدٍ عالية لمن هاجموه، بكل ما عندهم من شدة في التعابير والشوارع. وها هو يبني جسراً بين ماضي الرئيس ميشال عون ومستقبله هو. يستحضر ذلك إلى الأذهان أخبار آباء وأمهات "يتبنون" أحد أبنائهم، فيصير المفضّل ويُرمى على كتفيه إرث العائلة. في حالة الوزير ورئيس "التيار"، هو الصهر الأعزّ من الابن. ومؤرخو الجمهورية يشهدون أن أي عهد رئاسي لم يدعم الصهر إلى حد تهديد استقراره من دون إعادة نظر أو تعديل سلوك كما يحصل في لبنان.
والحال أن "المشكل" بين الرئيس بري والوزير باسيل دفع إلى الأمام رئيس "التيار" ليتجاوز عقبات وأوجاع رأس في "البيت الرئاسي"، إذا جاز التعبير، تجلّت في سجال على شاشتين تلفزيونيتين بين مستشارَين لرئيس الجمهورية، وهذه سابقة تُسجل في التاريخ. كما في "التيار عموماً حيث برزت عملية فرض التزام الهرمية الحزبية عندما استقبل الوزير باسيل المرشحين المحتمل التحالف معهم في كسروان- الفتوح وغيرها، وليس رئيس اللائحة المفترضة، العميد شامل روكز كما أراد بعض العونيين. والأهم أخرج باسيل نفسه من وضع غير مريح لـ"التيار" على أبواب الانتخابات النيابية في عدد من الدوائر، محققاً لشخصه تقدماً على سائر السياسيين في البيئة المسيحية.
تفيد هنا مراجعة لكلام باسيل في محمرش وعدم الغرق في المشاعر أياً تكن. للمرة الأولى منذ زمن بعيد يسمع الجمهور، المعتاد عبارات "النق" من غير قدرة على الفعل وتغيير الواقع القائم، سياسياً يقول إنه وفريقه في موقع الفعل والقدرة وسيعيدان ترتيب أحجام قوى سياسية انتفخت على حساب غياب المسيحيين عن الدولة منذ 1990. بمعنى آخر سنتجاوز الهزيمة وستعود الرئاسة عملياً وإلى حد كبير كما كانت قبل "اتفاق الطائف" من دون تخلٍّ متعذر عنه، لفظياً على الأقل.
هذا كلام يجد آذاناً تصغي. لا يغلط أحد في الحساب. وكيف إذا رافقته تحركات فوضوية ومسلحة في مناطق على مداخل بيروت الشمالية والشرقية، حافلة برموز حرب مضت ولم تمضِ عند من لم يتعملوا شيئاً منها؟
مذهل التصميم العوني على الصعود والوصول إلى الهدف بصرف النظر عن الأثمان. استعادة مسار الجنرال إلى رتبة الرئيس تعطي فكرة. الساعة الثانية عشرة إلا عشر دقائق قبل منتصف ليل 17 نيسان 1989 يتصل سعيد غريّب، الإعلامي الزميل آنذاك في إذاعة "صوت لبنان"، من الأشرفية المقصوفة ومحيطها مدى ساعات، بالقصر الجمهوري، ويُفاجأ برئيس الحكومة الجنرال يتجاوب مع طلبه ويعطيه تصريحاً على الهواء نشّف في ختامه الدم في عروق كثيرين: "... بعد في راس (الرئيس الراحل حافظ) الأسد بدّو يتكسّر" ، قال. وكانت ليلة ليلاء طلع بعدها الفجر على دمار كثير.
سيصطدم الرئيس الجنرال بعد تلك الحرب الضروس بـ"القوات اللبنانية" في مواجهة أقوى، ويدخل الجيش السوري ويدفع لبنان والجنرال وأنصاره والجميع أثماناً باهظة. لكنه سيعود بعد 15 عاماً من فرنسا، متفاهماً مع من أخرجوه وعادوه، وسوف يتحالف معهم مصطدماً، ليس بفريق 14 آذار سابقاً فحسب، انما ايضًا وأساساً بزعامة الطائفة السُنّية. تحالفه الثمين و"حزب الله" على قاعدة تبادل المصالح أعاده- مع الإصرار على الهدف - إلى قصر بعبدا، بتأييد من كانوا الأشرس في اعتراضه، مسيحياً وسُنّياً.
كل ذلك لقول خمس كلمات: نحن أمام صعود زعامة جديدة.
التعليقات