ماكس بوت
هل جرّبت ذات مرة خلال حياتك أن تجادل المروّجين لنظرية المؤامرة؟ لقد فعلت ذلك مؤخراً، فاكتشفت الدوامة المفرغة من المواقف اللاعقلانية التي يتمسك بها «الحزب الجمهوري». حدث ذلك عندما كنت أقوم بجولة في أرجاء الوطن لشرح مضامين وأهداف كتابي الجديد حول إنجازات «إدوارد لانسديل»، وهو البطل الأسطوري الغامض الذي قدم في عقد الخمسينيات عملاً بطولياً فريداً في التصدي للتمرد الشيوعي ودحره في جزر الفلبين، وأوعز بعد ذلك بإنشاء دولة فيتنام الجنوبية.
ورغم ما اشتهر به «لانسديل» بوصفه رائد التصدي للغزوات الشيوعية، فإن اسمه بات مرتبطاً بسوء السمعة في أوساط دعاة نظرية المؤامرة الذين يعتقدون أنه المسؤول الأول عن اغتيال الرئيس جون كينيدي عام 1963.
وكان أول من قال بهذا الرأي هو ضابط سلاح الجو الأميركي «ليروي فليتشير براوتي» المتوفى عام 2001، الذي عمل تحت قيادة «لانسديل» بوزارة الدفاع في بداية الستينيات. وعندما أحيل إلى التقاعد، أصبح من كبار المفكّرين الدعاة لنظرية المؤامرة، وكان متعاطفاً مع جماعة الضغط النازية الجديدة ومؤيداً لأفكار الفيلسوف والداعية الأميركي «ليندون لاروش». وهو الذي قال إن «عصابة تشرشل» هي التي اغتالت جون كينيدي، وإن ديفيد روكفلر (المدير التنفيذي الأسبق لبنك تشيز مانهاتن) هو الذي مهد لإسقاط حائط برلين.
ورأى «براوتي» أنه كان من المناسب الانتظار حتى وفاة «لانسديل» عام 1987 قبل أن يعمد إلى اتهام رئيسه السابق بأنه العقل المدبر لفكرة اغتيال كينيدي. فما الدليل الذي قدمه لتأكيد هذا الزعم؟ لقد كان ذلك الدليل مجرّد صورة ملتقطة في مدينة دالاس يوم 22 نوفمبر 1963 (يوم اغتيال كينيدي) يظهر فيها رجل متأنق يسير بجوار ثلاثة من الصعاليك وتحت حراسة عدد من رجال الشرطة. ولم تكن تظهر في الصورة إلا خلفية الرجل، وكان يلبس في إصبعه خاتماً (وقد أكد لي ابن لانسديل أن والده لم يسبق أن وضع في إصبعه خاتماً أبداً)، لكن «براوتي» أكد أن الرجل هو رئيسه السابق. ويبدو بكل وضوح أن هذه الرواية لم تكن أكثر من مجرد محاولة لا تستند إلى أدلة كافية لتحديد المسؤول عن اغتيال كينيدي. وتشير أكثر التحقيقات جدّية وشمولاً حول هذه القضية، وخاصة منها ما ورد في كتاب ضخم وضعه محامي الادعاء في القضية «فينسينت بوغليوسي» تحت عنوان «مراجعة السجل المفصل: اغتيال الرئيس جون فيتزجيرالد كينيدي»، الذي يقول فيه إن «لي هارفي أوزوالد» كان الرجل المسلح الوحيد على الساحة. ثم جاء فيلم أوليفر ستون عام 1991 تحت عنوان «جون فيزجيرالد كينيدي» ليلمّح بدوره إلى أن «لانسديل» الذي حمل الاسم الرمزي «الجنرال واي» General Y في الفيلم هو المسؤول عن عملية الاغتيال. ولا زالت هذه النظرية متداولة على شبكة الإنترنت. وقد فشلت كل المحاولات التي بذلتها خلال جولتي في المدن الأميركية لتفنيد مزاعم «برواتي» حول ضلوع «لانسديل» بقتل كينيدي رغم أن تلك المزاعم كانت مبنية على افتراضات وليس حقائق.
على أن الاحتكام إلى نظرية المؤامرة ليس بالظاهرة الجديدة في الفكر السياسي الأميركي، فقد سبق للرئيس دونالد ترامب أن ألمح إلى أن سلفه باراك أوباما قام بتزوير شهادة ميلاده، وزعم أيضاً أن ظاهرة الاحترار الكوكبي ليست إلا خدعة صينية، وأن قاضي المحكمة العليا أنطوان سكاليا مات غيلةً، وأن ملايين المهاجرين غير الشرعيين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأن والد السيناتور الجمهوري عن ولاية تكساس «تيد كروز» لعب دوراً في اغتيال الرئيس كينيدي.. إلخ!
بيد أن نظرية المؤامرة الوحيدة التي ينفيها ترامب هي المتعلقة بتدخل الروس في انتخابات 2016، رغم أن ذلك التدخل حدث بالفعل وفقاً لبعض المزاعم. ومن المؤسف حقاً أن يقتنع الرئيس بمثل هذه الأقاويل، وأن يصدقها كثيرون من أعضاء «الحزب الجمهوري».
والآن، أشار بعض الجمهوريين إلى أن «المجتمع السري» لمكتب التحقيقات الفيدرالي يعتزم إعادة النظر في سلوكيات ترامب والتحقيق فيها. ومثلما هو حال المتعصبين لآرائهم حول خفايا اغتيال كينيدي، فإن متملقي ترامب قد يتراجعون عن بعض مواقفهم المؤيدة له، لكنهم لن يتراجعوا عن تعلّقهم بنظرية المؤامرة. وعندما يحتكم المرء إلى اللاعقلانية في النظر إلى الأمور، يكون من المستحيل بالنسبة له أن يكتشف بعد ذلك طريق العودة إلى المنطق.
*كبير الباحثين في «مركز جين كيرباتريك لدراسات الأمن الوطني» التابع لمجلس العلاقات الخارجية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
التعليقات