عيد بن مسعود الجهني

 عاش العالم قبل تأسيس الأمم المتحدة فوضى كارثية بدأت مع نشوب الحرب الكونية الأولى (1914 - 1918) راح ضحيتها بشركثر تجاوز العشرة ملايين، ليهرع العالم بعد دمارها الرهيب للبحث عن مخرج فوجدوا ضالتهم في تأسيس عصبة الأمم لحفظ السلام والأمن الدوليين.

لكن تلك المنظمة رغم أنها كانت في ريعان شبابها إلا أن النازي هتلر حكم عليها بالإعدام بعد أن شهد العالم الكساد الاقتصاد العالمي (1929 - 1933)، وتلا ذلك غزو هتلر لجيرانه محتلا ليعلن هبوب نيران الحرب العالمية الثانية التي كانت أكثر قتلاً وتدميراً وتشريداً للبشر والحجر، فهلك عشرات الملايين تحت ضربات آلة تلك الحرب التي كانت أسلحتها التدميرية أكثر فتكاً من أختها السابقة لتكتب القنبلة النووية الأمريكية التي دكت الجزر اليابانية شهادة انتهاء تلك الحرب شديدة الشراسة.

هنا هرول رؤساء الدول المنتصرة ليؤسسوا الأمم المتحدة وتم بالفعل توقيع ميثاقها بتاريخ 26 يونيو 1945 في سان فرانسيسكو الذي أصبح نافذاً اعتباراً من تاريخ 24 أكتوبر من نفس العام، وقد أنشأ الميثاق عدة أجهزة رئيسية منها مجلس الأمن الذي حمله الميثاق مسؤولية حفظ السلم والأمن الدوليين. وطبقاً لنص الميثاق فإن المجلس يختص منفرداً بسلطة إصدار قرارات يلتزم الأعضاء بتنفيذها، وتمتد سلطته إلى الطلب من الأمين العام للمنظمة لبذل مساعيه الحميدة لتسوية نزاع ما بالطرق السلمية، لكن إذا كان النزاع قد بلغ حداً يمكن وصفه بالعدائي كالحرب ضد مبادىء الميثاق والقانون الدولي فإن المجلس يقع على عاتقه وضع حد لذلك الصراع بأسرع وقت ممكن.

وهنا من حقه مثلاً إصدار توجيه أو قرار لوقف إطلاق النار منعاً لتصعيد النزاع، وإيفاد مراقبين عسكريين أو قوات لحفظ السلام، كما أن سلطات المجلس (الخطيرة) تمتد إلى فرض حظر توريد الأسلحة والعقوبات الاقتصادية والمالية، وقطع العلاقات الدبلوماسية، بل قد يبلغ الأمر مداه بقرار المجلس شن الحرب الجماعية على الدولة أو الدول الصادر القرار بشأنها. هذا المجلس (الخطير) يؤكد تاريخه أنه عقد جلسته الأولى في العاصمة البريطانية لندن في السابع عشر من يناير 1946م، ثم أصبح مقره الدائم في مقر المنظمة في المدينة التجارية الكبرى نيويورك، لتصدر قراراته من بلاد العم سام تاركة أثرها على جميع أعضاء المنظمة الدولية، ماعدا بالطبع الدول الخمس صاحبة العضوية الدائمة المحرك الأساسي لقرارات المجلس رفضاً أو قبولاً.

هذه الدول الخمس المنتصرة في الحرب الكونية الثانية (أمريكا - روسيا - بريطانيا - فرنسا - ومعها الصين) صاحبة حق الفيتو (اللعين)، أي استعمال لهذا الحق (حق النقض) من الدول الخمس (يحرق) أي قرار للمجلس رغم أن المجلس مكون من (15) خمسة عشر عضواً، عشر دول غير دائمة العضوية تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة كل عامين.

إذا حق الاعتراض (الخبيث) يقتصر على الدول الخمس، فلها الحق المطلق بنقض أي قرار من قرارات المجلس دون أي توضيح لسبب أو أسباب الاعتراض أو الرفض، وبذا فإن إسقاط أي قرار أو إلغائه بيد (إحدى تلك الدول الخمس الكبرى) سواء تعلق بمصالحها أو بمصالح دول تدور في فلكها أو مرتبطة معها بحلف أو غيره، كما تفعل أمريكا في حالة إسرائيل، وروسيا في كل ما يتعلق بالنظام الدكتاتوري السوري وإيران كتصويتها بالفيتو ضد مشروع قرار المجلس 2402 تاريخ 26-2-2018 لتمديد العقوبات المفروضة على اليمن لمجرد ذكر إيران.

تاريخ مجلس الأمن يؤكد أن الدول الخمس مارست حق الفيتو منذ عام 1945 خاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (السابق) وروسيا في هذا الزمان، وقد أفرطتا تلك الدولتين في استخدام هذا الحق في جميع النزاعات والصراعات والحروب في قارات العالم الست. ودليلنا مثلاً أن أمريكا استخدمت هذا الحق سيئ السمعة (43) مرة دعما للدولة العبرية على حساب حقوق العرب في فلسطين، فهي (أمريكا) بلغ الحقد عندها أنها تستخدم (الفيتو) الكريه لمجرد انتقاد إسرائيل أو مطالبة مجلس الأمن بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلها عام 1967 وحتى في حادثة حرقها للمسجد الأقصى، وتقرير الشعب الفلسطيني لمصيره الذي منحه له ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والأعراف الدولية.

الفيتو الأمريكي منح إسرائيل سلطة مطلقة لاحتلال أراضي فلسطين وقتل وتشريد أهلها وإقامة المستوطنات واحتلال أراضي القدس الشريف، وبلغ الأمر مداه باعتراف سيد البيت الأبيض الجديد (ترامب) بإصدار قراره المشؤوم باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل واستخدام بلاده لحق (الفيتو) ليسجل التاريخ أن (صوت) واحد لدولة عظمى بقتل قرار لمجلس الأمن صوت لصالحه (14) صوتاً.

وإذا كان هذا هو الحال مع الولايات المتحدة استخداما (للفيتو)، فإن دولة ثانية مثل روسيا تسجل صفحة سوداء في تاريخها في الشرق الأوسط وتحديداً في دعمها لطاغية الشام والفرس في الحرب المدمرة على أهل الشام، فقد استخدمت روسيا حق الفيتو ضد قرارات المجلس في الشأن السوري (12) مرة خلال فترات قصيرة من عمر الحرب على تلك البلاد التي قاربت الـ (7) سنوات عجاف راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى وأكثر منهم من الجرحى والمعاقين و(12) مليونا من المهجرين في الداخل والخارج.

الفيتو الروسي أوقف كل مساعي المجلس لحلحلة القضية السورية، وعطل مهمة لجنة التحقيق الدولية، حول استخدام الأسلحة الكيماوي، عطلت جميع القرارات لإدخال المساعدات الإنسانية إلى السوريين المحاصرين، تسببت روسيا من خلال استخدامها لسلطتها في المجلس في حصد أرواح بريئة لا حصر لها، وآخرها ولن يكون الأخير محنة الغوطة الشرقية التي راوقت لتأخير قرار (أعرج) من المجلس بعد تعديلات فرضتها روسيا على أعضاء المجلس كسبا للوقت لقتل أكبر عدد من السوريين في الغوطة.

وحتى بعد صدور القرار الذي نص على وقف الاقتتال وإدخال المساعدات إلى العالقين استمرت روسيا وإيران والنظام الدكتاتوري وحزب الشيطان في شن حربهم الضروس مستعملين كل أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا ضد أهل الغوطة، بل إن قيصر روسيا لم يستمع إلى مناشدات المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي لوقف القتال. ورغم أن القرار رقم 2401 تاريخ 25-2-2018م صدر بالإجماع بدون (فيتو) روسي إلا أن سيد الكرملين لم يعر ذلك القرار أية أهمية واستمر مع زبانيته الفرس و (الدمية) السوري وحزب الله في زيادة حدة ضرباتهم الجوية والبرية ضد سكان الغوطة العزل الذين تشق صرخاتهم عنان السماء، ولم يمنحهم سوى ساعات خمس لدخول المساعدات الإنسانية، الأمر الذي أفرغ قرار المجلس من مضمونه وجعل مصيره سلة المهملات.

اليوم ومع تطور زيادة عدد الدول تحت قبة المنظمة وتغير الأوضاع السياسية والاقتصاد والعسكرية وبروز قوى جديدة في المنظومة الدولية، فإن الحاجة الدولية تستدعي تعديل بعض نصوص ميثاق المنظمة الذي بلغ سن التقاعد وزاد.

هذا التعديل يجب أن يعكس وضع العالم اليوم فليس من المعقول ربط مصالح العالم في دول خمس تتحكم في مصير (7.6) مليار نسمة، (193) دولة مستقلة، فالمشهد العالمي تغير حتى إن بعض الدول التي كانت عظمى بالأمس لم تصبح اليوم كذلك.

ثم إن الدول الخمس لا تمثل العالم قاطبة، فالدول الإسلامية (57) دولة سكانها (1.8) مليار نسمة من العدالة ان تمثل إحداها تلك الدول في المجلس، وأفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، فمن العدل أيضاً أن يتم توسيع قبة المجلس بانضمام دول دائمة العضوية إليه، أوالنظر في إلغاء الفيتو وزيادة عدد أعضاء المجلس ليصبح أكثر ديمقراطية، ولتصبح قراراته سارية في حق الجميع إذا صدرت بالإجماع أو بالنسبة المطلقة.

إذا كان (الفيتو) قد فرض (بالقوة) عندما كان عدد الدول المؤسسة للمنظمة في ريعان شبابها (51) دولة، اليوم وقد أصبح استعماله أكثر تعسفاً، وأكثر تعنتا مع الباطل ضد الحق وضد إرادة (188) دولة، فإن تبني دول العالم لمشروع تبنته دول عدم الانحياز وغيرها لإعادة النظر في تركيبة مجلس الأمن أصبح ضرورة تفرضها المتغيرات الدولية.

إنه حلم.. فهل ممكن أن يحدث؟ قبل أن تدور الدوائر وتندلع حرب ثالثة لا تبقي ولا تذر ويهرع من بقي من البشر للم الشتات في منظمة جديدة!!

والله ولي التوفيق.