بعد نحو 14 عاماً لا يزال السؤال قائماً: من اغتال عرفات؟!
صالح القلاب
خلال اجتماعه الحادي عشر، الذي انعقد في الجامعة العربية في القاهرة، في السابع والعشرين من فبراير (شباط) الماضي، استمع مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات، المشكل برئاسة وزير الخارجية المصري السابق عمرو موسى، ومن عدد من كبار المسؤولين العرب والفلسطينيين، وكما هي العادة، إلى «متابعة» من قبل رئيس لجنة التحقيق الطبية الدكتور عبد الله البشير، في اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبو عمار)، الذي توفي في مستشفى «بيرسي» العسكري الفرنسي في الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2004. ولعلّ ما عزّز المزيد من «الإحباط» لدى المجتمعين، والمفترض لدى الفلسطينيين كلّهم، أن هذه «المتابعة» لم تختلف عن تلك التي سبقتها، وأنه لا جديد فيها زيادة عما جاء في كل «المتابعات» السابقة.
جاء في هذا التقرير، الذي تقدم به الدكتور عبد الله البشير إلى مجلس الأمناء: أنَّ لجنة التحقيق التي يرأسها واصلت اتصالاتها مع الفرق الطبية الثلاثة: الروسية، والسويسرية، والفرنسية، التي كانت عقدت في 15-8-2016 اجتماعاً في موسكو دون مشاركة الفريق الفرنسي، ولكن لم يتم التوصل إلى تقرير مشترك بين هذه الفرق، وذلك في حين أن العمل لا يزال مستمراً مع الجانب الروسي.
وجاء في هذا التقرير كذلك، أنه تم تقديم طلب فلسطيني للروس، في رسالة رسمية في 8-5-2017، سُلّمت لوزارة الخارجية الروسية، أثناء زيارة الرئيس محمود عباس (أبو مازن) إلى موسكو، بالاستمرار في التحاليل الطبية العلمية، ولكن من دون أي نتيجة حتى الآن. وقد تم تكرار هذا الطلب مرة أخرى في شهر فبراير الماضي. وقد تضمن هذا التقرير الآنف الذكر، إشارة في غاية الأهمية تفيد بصدور كتاب للصحافي الإسرائيلي الاستقصائي رونين برغمان، تحت عنوان:
Rise and Kill First: The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations
تحدث فيه عن كثير من المحاولات الإسرائيلية لاغتيال ياسر عرفات، وخاصة في لبنان.
والمعروف بالنسبة للقيادة الفلسطينية، قيادة حركة «فتح» على وجه التحديد، ولبعض المقربين من (أبو عمار) أنه كان قد تعرض لمحاولة «تسميم» خلال ما يسمى المرحلة «البيروتية»، حاول القيام بها «طباخه» الخاص، بتكليف من الموساد الإسرائيلي، من خلال بعض الاختراقات في بعض الأجهزة الأمنية الفلسطينية واللبنانية، ولكنه - أي هذا الطباخ أو الطاهي - قد أصيب عند لحظة التنفيذ بالهلع والارتباك، وبادر إلى الاعتراف وهو يجهش بالبكاء، وكان عرفات ينوي «العفو» عنه؛ لكن صلاح خلف (أبو إياد) باعتباره المسؤول عن الأمن الفلسطيني، قرر إعدامه، وتمت عملية الإعدام - كما يقال - في ساحة جامعة بيروت العربية، وحيث كانت هذه الجامعة في العطلة الصيفية.
ثم إن «أبو عمار»، كما قيل في وقتها، كان مشمولاً بتلك العملية الإرهابية التي قيل إن إيهود باراك هو الذي قادها، واستشهد فيها كل من «أبو يوسف النجار»، وكمال عدوان، وكمال ناصر؛ لكنه تمكن من الإفلات رغم استهداف العمارة التي كانت تضم إحدى شقق نومه؛ لأنه معروف بتغيير أماكن النوم عدة مرات في الليلة الواحدة.
وكان الرئيس الفلسطيني الراحل - رحمه الله - يتنقل بين كثير من «أقبية» عمارات بيروت الغربية، وبخاصة في منطقتي المزرعة والفاكهاني، التي كان يستخدمها كغرف عمليات يقود من خلالها بطرقه الخاصة عمليات المواجهة مع القوات الإسرائيلية الغازية، وكانت إحدى هذه العمارات تقع بالقرب من وزارة الإعلام اللبنانية، فكان أن استهدفتها القاصفات الجوية الإسرائيلية بغارة في ساعات ما قبل المساء؛ لكنه كان قد غادرها مسرعاً هو ومن كان معه، قبل دقائق قليلة من بدء تلك الغارة.
ويقال أيضاً إن الإسرائيليين الذين كانوا يحتلون جزءاً من بيروت الشرقية، قد تعهدوا للأميركيين خلال المفاوضات التي كان قد قادها من الجانب الأميركي فيليب حبيب، اللبناني الأصل، بعدم استهداف (أبو عمار) لدى مغادرته لبنان والعاصمة اللبنانية بحراً، في أواخر أغسطس (آب) عام 1982؛ لكنهم - أي الإسرائيليين - كانوا قد التقطوا له صورة وهو يقف على متن السفينة، التي أقلته إلى أثينا في اليونان، ثم إلى تونس، ثم إلى فاس في المغرب، ملوحاً بيده لمودعيه من الوطنيين اللبنانيين «رفاق السلاح»، ولرئيس الوزراء اللبناني، وبعض وزراء حكومته.
ولعل الأخطر من بين هذه المحاولات كلها، تلك الغارة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت أحد فنادق الضواحي الشرقية من العاصمة تونس، الذي كان (أبو عمار) يتخذه مقراً له؛ لكن ما أفشل تلك المحاولة التي يقال إن إيهود باراك قد قادها بنفسه، وكان يتابع تنفيذها من فوق سفينة حربية كانت ترسو بالقرب من المياه الإقليمية التونسية، أن الرئيس الفلسطيني كان كعادته يقوم بمشوار صباحي مبكر على شاطئ البحر، بعيداً بنحو أكثر من ثلاثة أميال عن هذا الفندق الذي كان يقيم فيه.
وهنا تجدر الإشارة كذلك إلى أن شارون الذي كان وزيراً للدفاع خلال غزو بيروت في عام 1982، كان عازماً على نقل القادة الفلسطينيين، وعلى رأسهم (أبو عمار)، بـ«شِباكِ» المروحيات العسكرية الإسرائيلية، في حال استسلامهم، لمحاكمتهم في إسرائيل كقتلة وكمجرمين، وعلى غرار محاكمة الألماني أدولف أيخمان الذي اتهمه الإسرائيليون بأنه شريك أساسي في المذابح التي ارتكبت ضد اليهود خلال المرحلة النازية.
وهكذا، ولأن الصمود الأسطوري فعلاً خلال حصار بيروت في عام 1982 قد أفشل خطط أرييل شارون ونواياه، فإنه بقي يضمر للرئيس الفلسطيني شراً دفيناً، وبالتالي فإن كل الأدلة تثبت أنه هو من رتب عملية اغتيال عرفات بمواد «سمية» لا يملكها إلا الموساد الإسرائيلي، وذلك رغم أنه كان قد تعهد للأميركيين بعدم استهداف الرئيس الفلسطيني الراحل في مبنى «المقاطعة» الذي كان ولا يزال يستخدم مقراً للرئاسة الفلسطينية في مدينة رام الله، التي هي العاصمة المؤقتة لدولة فلسطين.
والآن وَعَوْداً على بدء، فإن هناك قناعة لدى الفلسطينيين بصورة عامة، يترددون في الإعلان عنها على المستويات القيادية؛ تحاشياً لأي تردٍّ لعلاقاتهم مع بعض الدول المعنية، بأنَّ هناك معلومات لدى الروس والفرنسيين تحديداً، أثبتتها «التحاليل» المخبرية، بأن الرئيس الفلسطيني الراحل قد تم اغتياله بمادة سمية إسرائيلية بطيئة المفعول. وهنا فإن هناك من يقول - والله أعلم، وهذا لم يثبت حتى الآن بعد - إن هذه المادة قد دُست له في مادة طبية كان قد استخدمها طبيب أسنان فلسطيني لعلاج إحدى أسنانه، ربما من دون علمه بما دسه فيها الإسرائيليون. والغريب فعلاً أن هذا الطبيب قد تم اغتياله مباشرة بعد ظهور أعراض ما أدى إلى وفاة (أبو عمار) رحمه الله.
ويبقى في النهاية أنه لا بد من الإشارة إلى أنني كنت قد عرفت ياسر عرفات عن قرب، في النصف الثاني من عقد ستينات القرن الماضي، وأنني بقيت قريباً منه في «المرحلة البيروتية» التي امتدت عملياً من عام 1970 وحتى عام 1982، وأنني كنت أحد الذين رافقوه في رحلة الخروج من بيروت إلى أثينا في اليونان، ثم إلى تونس، ثم إلى فاس في المغرب؛ حيث انعقدت قمة فاس العربية الثانية.
وهكذا، فإنني بقيت على تواصل مع هذا الإنسان الطيب، الذي لا يقيم أي علاقات شخصية ولا سياسية إلا على أساس فلسطين والقضية الفلسطينية. وهنا وبعد نحو أربعة عشر عاماً من رحيله؛ فإنه لا بد من أن أشير إلى أنني عندما علمت بمرضه وبتردي حالته الصحية، اتصلت بـ«الأخ» محمود عباس (أبو مازن)، الذي أصبح رئيساً فيما بعد، وسألته عن مدى جدية ما يعاني منه (أبو عمار) وكان جوابه التلقائي: «إن المسألة في غاية الجدية، وإن الوضع في غاية الخطورة، وعليك أن تتصل به هاتفياً الآن».
وكان جوابي أنني أخشى من أن «أثقل» عليه، ما دام أن وضعه بكل هذه الخطورة. وقال (أبو مازن) بكلمات متقطعة تقطر حزناً: «لا، اتصل به، إنه سيرتاح إذا سمع صوتك؛ لأنه يحبك، ولأنه يرتاح لكل من يكلمه وهو في هذا الوضع من الذين يحبهم».
تناولتُ الهاتف فوراً، وقلت للذي أجابني إنني أريد أن أكلم الأخ (أبو عمار)، وفوراً جاء صوته المتعب: «أهلا يا حبيبي يا صالح، وحشتني كثير»، قلت: «سلامتك يا أخ أبو عمار، عارض عابر، وهو سينتهي بإذن الله».
قال، وهذه آخر كلمات سمعتها منه: «خلاص يا خوي، الأمور انتهت، لقد (قِدْروا) عليَّ يا حبيبي، لقد (قِدْروا) علي»!!
أسأل الله أن يغفر له ويرحمه.
التعليقات