خالد الحروب
ثمة مؤشرات عديدة تتجمع وتشير إلى صعود نزعة عداء شبه عنصرية، إن لم تكن عنصرية بحتة، ضد الفلسطينيين في أوساط مؤسسة الرئاسة الأميركية والكونغرس، فضلاً عن دوائر اليمين المُتصهين، وهي نزعة معاداة الفلسطينيين (Anti Palestinianism). سوف تدخل "الترامبية" في التاريخ الفلسطيني بكونها الحقبة الأميركية الأكثر بشاعة والتي عزز فيها الرئيس الأميركي نفسه نزعات وسياسات احتقار الفلسطينيين وكراهيتهم، وترجم تلك الكراهية إلى قرارات سياسية مدمرة بدءاً من نقل السفارة الأميركية للقدس، إلى تغيير الموقف الرسمي الأميركي من المستوطنات والاستيطان، ثم مروراً بتقليص المساهمة الأميركية في ميزانية وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا)، إلى النصف، وليس انتهاءً بالتضييق على مكتب منظمة التحرير في واشنطن. هذه الكراهية المُتصاعدة هي التي تبرر الصمت الأميركي عن كل السياسات والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وحتى عدم التعليق على أكثر التصريحات الإسرائيلية عنصرية ونازية مثل تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان، بأنه لا يوجد أبرياء في قطاع غزة ـ أي أن قتل أي فرد من المليوني فلسطيني في قطاع غزة أمر مسوغ. وهي الكراهية التي وحدها تمكننا من فهم كلمة نيكي هيلي المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة وهي تحمل الفلسطينيين، الضحية، مسؤولية أن تقوم إسرائيل بقتل أكثر من ستين منهم وجرح أكثر من ألفين وسبعمائة في مسيرات العودة في غزة.
على إيقاع صلوات وخطابات المسيحية الصهيونية التي تحتل الآن قلب البيت الأبيض ويعزز حضورها الشرس نائب الرئيس مايك فينس، تنتقل المقاربة الأميركية تجاه فلسطين والفلسطينيين وإسرائيل والقدس من مربع السياسة إلى مربع الدين والغرائز البدائية. لم يكن الدين غائباً عن السياسة الأميركية في أي حقبة من الحقب، ذاك أن قيام أميركا تلازم ورؤية مسيحانية بيوريتانية منذ التأسيس، فهي تلك "المدينة على جبل" التي تشع بالنور على جوار يتسم بالظلام! وعلى طول القرنين الثامن والتاسع عشر كان الدين وجذور المسيحية الصهيونية تقف خلف حماس، ونشاط العديد من الرحالة والسياسيين الأميركيين وتأتي بهم إلى الأرض المقدسة. وتبلورت أفكار هذه المسيحية حول فكرة أساسية محورها أن عودة اليهود إلى "أرض الميعاد" هي الشرط والبشير الأولي إلى عودة المسيح الثانية، ونهاية العالم. على ذلك وللتسريع في عودة المسيح لا بد أن يستعمر اليهود تلك الأرض التي وعدهم الرب بها. وفي النسخ الأكثر تطرفاً في هذه الرؤية هناك توسيع لمفهوم "أرض الميعاد" أو أرض إسرائيل التي يجب أن يستوطنها اليهود، لتشمل شرق الأردن، وبعضها يُضمن خرافات أخرى تضم الأرض الواقعة بين النيل والفرات. المشكلة أن هذه الترهات التعصبية أصبحت الآن في قلب الخطاب الأميركي تجاه فلسطين وإسرائيل، وشواهد الإشارة إليها عديدة جداً سواء في خطابات وتصريحات ترامب ونائبه وصولاً إلى سفيره في إسرائيل، وليس انتهاءً بالقس المتعصب روبرت جيفرس الذي قاد صلاة عنصرية في افتتاح السفارة الأميركية في القدس الأسبوع الماضي، واستثنى أهمية القدس عند المسلمين بكاملهم وحصر أهميتها الدينية باليهودية والمسيحية.
الخطاب الديني الغرائزي المتعصب والإقصائي أياً كان وحيثما وُجد يتحول إلى تسويغ لإبادة الآخر، إن تمكن من احتلال السياسة والقرار السياسي والعسكري. في هكذا خطاب تختلط التسويغات الدينية التي تعلي من شأن الذات وتحقر من الآخر، مع عنصريات إثنية بيضاء أو غيرها تكرس من تراتبية الأجناس والألوان. في كل الأديان والثقافات والحضارات هناك خطابات غرائزية متطرفة وإبادية ضد الآخر، لكن مخاطرها تظل قليلة طالما بقيت على الهامش ومُسترذلة من قبل المجموع العام. وعندما تتسلل مثل هذه الخطابات إلى سدة القيادة وتسيطر على عقل وتصرفات حكومة أو دولة ما، فلا معنى ذلك سوى أن كارثة ما أصبحت قيد الحدوث.
في الحروب الأميركية البيضاء ضد الهنود الحمر تم توظيف الدين واستغلاله إلى الحد الأقصى، وتبرير الهولوكست المسكوت عنه ضد السكان الأصليين، حيث أبيد منهم ما بين عشرين إلى ثلاثين مليوناً على يد البيض القادمين من أوروبا، الهاربين بدينهم من البطش الكاثوليكي المتعصب في القارة. من منظور ديني عنصري تم موضعة الهنـــود الحمر في مرتبة أقل من البشر، واعتبرت أرواحهم ملعونة ولا تستحق الرحمة، بل أن الرحمة الوحيدة التي يمكن ممارستها معهم هي قتلهم حتى تتخلص أرواحهم من عذابات اللعنة التي طاردتهم بسب بعدهم عن طريق الرب أو عدم وصولهم إليه. وإجمالاً وتبعاً للأكاديمي البريطاني مايكل بريور فإن المنظور الديني المُحور والمُؤول الذي وظفه الاستعمار في شكل عام يرى في تلك الشعوب المُستعمرة غير المسيحية، سواء أكانت الهنود الحمر في أميركا والسكان الأصليين في أميركا اللاتينية ونظائرهم في أفريقيا بطولها وعرضها، ثم العرب في فلسطين، بأنها كانت محكومة بالخطايا الأبدية، ولذا كان عليها أن تخضع لخيارات القوة المسيحية البيضاء. والخياران الوحيدان أمام هذه الشعوب هما تطهير أرواحها عبر التبعية للاستعمار، وإما مواجهة خيار الإبادة. وروجت الخطابات المرافقة للقوة الباطشة آنذاك بأن الاستعمار الغربي كان تعبيراً عن انتصار الرب ورغبته في توسيع مملكته، وكل من يواجه هذه الرغبة عليه تحمل النتائج الإبادية.
ولم تكن النازية وهتلر ومشروعهما الإبادي ضد يهود ألمانيا وأوروبا بعيدين عن توظيف الدين أيضاً. ووفق تحليل معمق في دور الدين وتوظيفه في المشروع النازي، في كتاب هام بعنوان "هتلر والرب والإنجيل": Hitler, God & the Bible صدر من سنتين من تأليف راي كومفورت Ray Comfort فأنه من دون الاعتماد على المسيحية والتأويل الديني ولي أعناق النصوص واستغلالها، ما كان لهتلر ولا لدولة الرايخ أن تصل إلى ما وصلت إليه، أو أن تسوغ إبادة ستة ملايين يهودي في المحرقة. يجادل كومفورت بأن هتلر كان مقتنعاً بأن ما يقوم به من "غربلة" للجنس البشري تفرض ضرورة التخلص من الأجناس الردئية، وترقية "الجنس الآري الأبيض" فوق الجميع، هو ترجمة لإرادة الرب وأن تلك الغربلة مسنودة بمسوغات إنجيلية.
أحد جوانب خطابات إبادة الآخر يتمثل في إسكاته وطمسه ومحاولة محوه ليس فقط من الحاضر بل ومن الماضي أيضاً. ويتمثل هذا الجانب اليوم في الخطابات الأميركية تجاه فلسطين والفلسطينيين في كثير من التعبيرات والفذلكات البلاغية، أهمها عدم ذكر كلمة "فلسطين" و "الفلسطينيين"، وكأنهم غير موجودين أساساً. حتى عند اضطرار ترامب للحديث عن عملية السلام فإنه يتحدث عنها في شكل عام وكأنها بين أطراف تقطن المريخ. مسؤولو الإدارة الأميركية من واشنطن إلى الأمم المتحدة إلى سفيرها في تل أبيب لا يذكرون كلمة "فلسطين" أو "الفلسطينيين"، بل يُشار لهما بضمائر مجهولة. هذا ما رآه الجميع في كل الخطابات التي غلب عليها الدين والعنصرية في حفل افتتاح السفارة الأميركية في القدس. ليس هناك "آخر"، وهذا "الآخر" يجب أن يُطمس حتى مجرد ذكره. وإن حدث وقتلنا منه عشرات على حدود غزة، فإنه هو المسؤول عن موته. مع هذه الإدارة الأميركية وعنصرياتها إزاء الفلسطينيين والعرب والمسلمين عامة يتم دفع العالم إلى حقب الظلام والعصور الوسطى.
التعليقات