مصطفى السعيد 

قال رئيس المجلس الأوروبى إن من لديه صديق مثل ترامب لا يحتاج إلى أعداء، فى معرض وصف دونالد توسك لسياسات الرئيس الأمريكي، والتى أحدثت شرخا غير مسبوق فى العلاقات الأوروبية الأمريكية، بعد أن هدد ترامب بمعاقبة الشركات الأوروبية التى لا تلتزم بما يقرره من عقوبات ضد إيران، لتنتفض أوروبا للزود عن كبريائها، بعد أن شعرت أن ترامب يريد أن يقودها عنوة إلى حيث يشاء، ولهذا أصبحت دول الاتحاد الأوروبى أكثر تصميما على التمرد ضد سياسة ترامب، والتمسك بالاتفاق النووى مع إيران، وأعلنت لأول مرة أنها ستتخذ إجراءات لحماية شركاتها التى لا تمتثل للتهديدات الأمريكية، وتواصل أعمالها مع إيران، وهو تمرد سيكون له تبعاته على الروابط الاقتصادية القوية بين الولايات المتحدة وأوروبا، وستشجع الصين وحلفاءها على المضى فى كسر الهيمنة الأمريكية على المؤسسات والبنوك الدولية، وأن تنشئ منظومة مالية موازية، وتشكيل تحالفات اقتصادية قادرة على إنهاء عصر الهيمنة الأمريكية.

لقد كان خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووى الموقع بين الدول الخمس الكبرى وألمانيا مع إيران بمثابة زر تفجير الغضب الأوروبى المتراكم ضد سياسات الرئيس الأمريكى ترامب، فقد سبق لترامب أن أغضب أوروبا كثيرا، عندما أعلن الخروج على اتفاقية باريس حول الحفاظ على مناخ الأرض، وعدم التزام الشركات الأمريكية بأى إجراءات تلزمها بدفع أموال لاحتواء مشكلات التلوث الصناعى والأنشطة المضرة بالبيئة، ثم وجه ضربة أشد عنفا بالإعلان عن فرض قيود جمركية على واردات الولايات المتحدة لعدد من المنتجات الأوروبية، حطم فيها أحد أهم مقدسات الرأسمالية العالمية وهى حرية التجارة، وأظهر ترامب أنه لن يكترث بأية قوانين دولية أو مبادئ يمكن أن تكون عقبة فى تحقيق المكاسب للشركات الأمريكية، ولو ضحى بحلفائه الأوروبيين، كما جاء قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ليثير غضب أوروبا من انفراد ترامب باتخاذ قرارات يمكن أن تسبب مشكلات أكثر من أن تقدم حلولا، وعدم استشارة أهم حلفائه فى أوروبا والدول العربية المرتبطة بعلاقات وثيقة بالولايات المتحدة، فقد تسبب ترامب فى حرج بالغ للجميع، واندفع لتفجير الأزمات، دون أى اهتمام بالنتائج المترتبة عليها، ولهذا ظهرت المسافة واسعة فى مجلس الأمن عند مناقشة الاعتداءات الوحشية الإسرائيلية ضد المظاهرات الفلسطينية فى غزة، فقد استماتت أمريكا فى الدفاع عن الجرائم الإسرائيلية، بينما رأت دول الاتحاد الأوروبى أن ترامب هو من شجع إسرائيل على التمادى فى انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين إلى حد الإفراط فى قتل المدنيين العزل بلا رحمة، ولهذا وقفت أوروبا مع مطلب التحقيق المستقل فى الجرائم الإسرائيلية فى مواجهة أمريكا وإسرائيل. كان هدف ترامب من قرار إلغاء الاتفاق النووى مع إيران أن يشكل تحالفا دوليا يفرض حصارا اقتصاديا وسياسيا على إيران، وفرض شروط قاسية تحرمها من برنامجها الصاروخي، ووضع حد لنفوذها فى المنطقة، لكن النتيجة جاءت عكسية، فالعقوبات ستنفذها الولايات المتحدة فقط، ولا توجد روابط اقتصادية ذات قيمة مع إيران، وبدون توافق دولى لن تتمكن من فرض أى عقوبات مؤثرة على طهران، وأعلنت الصين أنها ستوطد علاقاتها الاقتصادية مع إيران، ومع انضمام دول الاتحاد الأوروبى للعصيان على الإرادة الأمريكية تكون قد اهتزت صورة الولايات المتحدة وفقدت الكثير من هيبتها بسبب سياسات ترامب المفرطة فى التصعيد والتهديد بفرض العقوبات، بل إن كوريا الشمالية التى كانت قد أبدت موافقتها المبدئية على نزع سلاحها النووى تراجعت، لتعلن رفض أى ضغوط تنال من تسلحها النووي، مشككة فى نوايا السياسات الأمريكية، وجمدت مباحثاتها مع كوريا الجنوبية، الرامية إلى خفض التوتر، وإيقاف البرنامج النووى والتجارب الصاروخية لكوريا الشمالية، فى الوقت الذى كان يعتقد فيه ترامب أنه على وشك انتزاع نصر تاريخى بنزع السلاح النووى لكوريا الشمالية، وهو فشل ناجم عن حالة انعدام الثقة فى احترام أمريكا لتعهداتها.

لقد أظهرت استطلاعات الرأى فى فرنسا عدم ثقة الشعب الفرنسى فى سياسة الرئيس الأمريكي، وأن الغالبية العظمى ترفض إلغاء الاتفاق النووي، وأصبحت انتقادات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لسياسات ترامب أكثر حدة، وارتفعت الأصوات الأوروبية الداعية لاعتماد سياسة أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة، بل الاعتماد على النفس فى السياسة الدفاعية، وخصوصا مع تصريحات ترامب المستفزة عن ضرورة أن تتحمل دول أوروبا أموالا أكثر فى موازنة حلف الناتو، التى تشكل القوات الأمريكية النسبة الغالبة فيه، وهى نفس سياسة الابتزاز التى يمارسها الرئيس الأمريكى مع حلفائه فى كل مكان، لتتقوض خطط ترامب الرامية إلى حصار روسيا والصين، فعندما يتمرد عليه أقرب حلفائه، فلا يمكن توقع أن يشاركوه فى تنفيذ مخططاته، لتكون الولايات المتحدة مرشحة لمزيد من التراجع والانكفاء.