فضيلة الفاروق
في آخر حفل للسيدة فيروز في بيروت، لم أتوقع أن أرى جمهوراً مهولاً فاق السبعة آلاف متفرج قدموا من كل لبنان والعالم العربي، فقد رأيت نجوماً من مصر وسورية والخليج، ووجوهاً سياسية، وجمهوراً متنوعاً بين كبار السن إلى صغاره، لقد رأيت مراهقين تحت الثامنة عشرة ما جعلني بعد هذا العمر أكتشف أن فيروز تغني لكل الأعمار.
الزحام عند مدخل مسرح «بيال» تطلب منا حوالي الساعة حتى دخلنا وأخذنا أماكننا، مواقف السيارات في الخارج كانت مليئة، وشبان «الفالي باركينغ» يركضون ويتقاطعون وهم يقومون بعملهم، همست لي سيدة خليجية أنها قدمت هي وصديقاتها وأقاربها وشغلوا نصف الفندق، وذاك كانت حال فنادق بيروت خلال تلك المناسبة، فقد حرّكت فيروز وحدها حركة مطار بيروت، وشركات الطيران، والفنادق، والمطاعم، ومواقف السيارات، ونشطت السياحة لعدة أيام في بلد يرزح تحت ضغوطات ومشكلات سياسية واقتصادية لا حصر لها...
انتفع من وراء حفلتها أناس لا يخطرون على بال موظفي الوزارات المحدودي التفكير، فحتى بياع الورد على الشارع استفاد، وبيّاع عرانيس الذرة على الكورنيش...
لماذا أوردت لكم هذه الحكاية؟
الجواب لأن الكثيرين يعتقدون أن الاستثمار في القطاع الثقافي غير ممكن، وليس أكثر من إهدار للمال والوقت، بل إن البعض يذهب إلى أن الثقافة قطاع خاسر، يمتص صناديق الوزارات دون أي مدخول يذكر. والحقيقة أن تسليم وزارات الثقافة لدفة قيادة المسار الثقافي يجب أن يكون مرتبطاً سلفاً بالاشتغال على ذائقة الناس، من خلال مجموعة عمل جادة تتكون من قسمين: أولها لديه حاسة فنية عالية، والثاني لديه قدرة إدارية ممتازة للاهتمام بالتنظيم والتحكم فيه، بغية تحقيق المكسب المادي والمعنوي من وراء الاستثمار في الثقافة.
أقول ذلك في هذا الوقت الحساس حيث عيون العالم مُصَوّبة نحو العاصمة السعودية الرياض وهي تفتح أبواب مسارحها لأسماء فنية كبيرة، ولجمهور عريض أصبح بإمكانه أن يحضر ما يريد دون التنقل خارج المملكة، التي بالتأكيد لديها من الإمكانات ما يكفي لتصبح قبلة للسياحة الثقافية، فهي للتذكير تحتضن أكبر صالون للكتاب سنوياً، وتتربع به بأكبر نسبة للمبيعات.
غير ذلك، علينا أن ننظر إلى المواهب التي سيتحقق لها الفضاء الملائم لتبرز، وحمل إرث عملاق بحجم طلال مداح رحمه الله، والفنان الكبير محمد عبدو، وآخرين يضيق المقام لذكرهم الآن سواء في مجال الأغنية أو التلحين أو قرض الشعر أو فنون أخرى.
ثمة تأسيس واضح لمشروع ثقافي كبير اليوم في المملكة، لا يسعنا إلاّ أن نبتهج به ونسانده، وهذا في حد ذاته عزاء كبير لنا، أمام أفول عواصم كانت تتصدر المشهد الثقافي العربي.
التعليقات