خالد العضاض
كان الانشقاق الثاني، وهو الأبعد زمنا مما حدث في منتصف عهد عثمان -رضي الله عنه-، ما عرف بحروب الردة، حيث لم يكد نبأ وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتشر في بلاد العرب حتى اشتعلت الفتنة
تقدر زمنيا حقبة الخلافة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثلاثين سنة، وهي حقبة زاخرة بالأحداث والقضايا والأفكار المؤسسة للتشكلات والتكونات الفكرية والثقافية والسياسية التي زخر بها فضاء التاريخ والفكر الإسلامي على امتداده.
شهدت هذه الحقبة في مرحلتها الأخيرة بدايات تمزق الأمة وبداية افتراقها -بحسب كثير من الباحثين- تحديدا في النصف الثاني من خلافة عثمان -رضي الله عنه- وحتى اغتيال علي -رضي الله عنه-، ففي هذه السنوات الخمس كان المشهد الإسلامي على موعد مع انقسامات الفكر والسياسة الكبرى بين مذاهب الخوارج والشيعة والسنة، حيث كانت هذه المرحلة بداية الأزمة، ثم الاحتراب الأهلي -إن صحت التسمية- ثم تنازل الحسن -رضي الله عنه- عن خلافة دامت ستة أشهر، وتولي معاوية -رضي الله عنه- الخلافة الإسلامية، على أن تكون بعده شورى بين المسلمين، فلما توفي ذهبت الخلافة إلى ابنه يزيد مما جعل الحسين -رضي الله عنه- يعترض على ذلك معارضة أدت إلى مقتله في النهاية، واستمر الأمر حتى جاءت الخلافة العباسية التي أطاحت بالخلافة الأموية، وجاءت بتوازنات جديدة على ساحة الفكر الإسلامي، كان من نتائجها إبعاد العنصر العربي عن مواضع السيادة.
وعلى كلٍّ، فإني أميل إلى أن بداية الانشقاق والافتراق بدأت بوادره في وقت أبعد من هذا التاريخ قليلا، إذ برزت فور وفاة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- مسألة الخلافة، وهي مسألة رئيسة ومحورية وحاسمة ترتبط بها كل المسائل الأخرى من المصالح الاجتماعية والسياسية للمجموعات البشرية المختلفة في دولة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بما فيها القبائل الحضرية والبدوية، والتي ما زالت تعبر عن نفسها بأشكال مباشرة وصريحة تتلاءم مع مكتسباتها المتيقنة والمظنونة، إذ كانت أهم القضايا التي برزت في تلك المعضلة التي واجهها المجتمع المسلم من دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضية اختيار خليفة، والذي حدث أن الأنصار -رضوان الله عليهم- اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة دون علم المهاجرين لعوامل عدة أهمها: أن أهل المدينة كانوا يرون أحقيتهم بالخلافة، لكونهم أول من ناصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- واستقبله مع أصحابه المهاجرين.
اتفق الأنصار على مبايعة سعد بن عبادة الخزرجي، رضي الله عنه، وبالمقابل كان المهاجرون بعيدين كل البعد عن هذا الجو السياسي، ولما بلغ خبر اجتماع السقيفة أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- مضيا إلى السقيفة ومعهما أبوعبيدة عامر بن الجراح -رضي الله عنه- فجرت مناقشة هادئة انتهت إلى القول بالثنائية في الحكم: «منا أمير ومنكم أمير»، وكان صاحب هذه النظرية هو الحباب بن المنذر -رضي الله عنه-، لكن الوفد من المهاجرين كانوا يفضلون وحدة الأمة والأخذ بمبدأ الأقدمية في الإسلام، فتطورت المواقف وتباينت، واتجهت الأمور التي عرضت في الاجتماع نحو التأزم، ولم تنفرج إلا بعد أن أيد بشير بن سعد بن النعمان الأنصاري -رضي الله عنه- موقف المهاجرين، فتحرك أبوبكر -رضي الله عنه- في تلك اللحظة بعد أن رأى أن الفرصة سانحة لإقفال باب المناقشة، فدعا إلى مبايعة عمر بن الخطاب أو أبي عبيدة، لكن عمر أبى إلا أن يتولاها أبوبكر -رضي الله عنهم أجمعين-، فطلب منه أن يبسط يده ليبايعه، فسبقه بشير بن سعد وأسيد بن الحضير، ثم أقبل الأوس والخزرج على مبايعته باستثناء سعد بن عبادة -رضي الله عنه-، ثم تمت في المسجد البيعة العامة من المهاجرين والأنصار قاطبة، حيث خطب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على المنبر ثم أصعد أبابكر -رضي الله عنه- فبايعه عامة الناس، جرت هذه الوقائع في الوقت الذي كان فيه علي بن أبي طالب والزبير بن العوّام، ونفر من بني هاشم، وطلحة بن عبيد الله -رضي الله عنهم- مشغولين بجهاز النبي -صلى الله عليه وسلم- ودفنه، فغابوا عن اجتماع السقيفة، وعليه لم يكن لعلي -رضي الله عنه- رأي مباشر في النقاش إلا أنه بايع أبا بكر -رضي الله عنه- في نهاية المطاف.
كان الانشقاق الثاني، وهو الأبعد زمنا مما حدث في منتصف عهد عثمان -رضي الله عنه-، ما عرف بحروب الردة، حيث لم يكد نبأ وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتشر في بلاد العرب حتى اشتعلت الفتنة في كل أنحاء الجزيرة العربية بأشكال مختلفة، ولأسباب متباينة.
مضت أيام المسلمين في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- حتى قبيل وفاته، إذ ذكر ابن الأثير في تاريخه أنه استدعى كبار الصحابة، وطلب منهم أن يختاروا خليفتهم بأنفسهم، وعندما ناقش الصحابة الأمر أخذ كل منهم يتعفف عن المسؤولية، فعادوا إلى أبي بكر -رضي الله عنه- وطلبوا منه أن يرشح لهم أحدا، فاستشار أبوبكر عددا من الصحابة في عمر -رضي الله عنه- ثم أمر بجمع أهل المدينة، فعرض عليهم ترشيح عمر -رضي الله عنه- خليفة له، وسألهم إن كان لهم اعتراض، وأوصاهم بالسمع والطاعة.
ومر عهد عمر الفاروق، حتى جاءته المنية، وعندما كان عمر -رضي الله عنه- يحتضر لم يرغب بأن يولي على المسلمين بعده أحدا بعينه، فقد أثر عنه أنه قال: (إن أعهَدَ فقد عَهِد من هو خيرٌ مني، وإن لم أعهد فلم يعهد من هو خير مني).
واختار ستة من كبار الصحابة، وطلب منهم أن ينتخبوا خليفة من بينهم، دون أن يرشح لهم أحدا بعينه، وبعد عدة مشاورات تمت البيعة لعثمان -رضي الله عنه-.
سار النصف الأول من خلافة عثمان -رضي الله عنه- على ما يرام، وكانت الدولة خلاله مستقرة، لكن بحلول عام 31 للهجرة بدأت القلاقل والتوترات تظهر وتتصاعد، واستمرت حتى نهاية عهده وعهد علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، بل وحتى نهاية دولة الخلافة الراشدة بأكملها، وبعد مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- اتخذ الانقسام الذي أفرزته الثورة عليه صيغة نهائية واتسعت الهوَّة بين الفرقاء، وولد في المجتمع الإسلامي الفرق السياسية، ونشأ الفكر السياسي في تاريخ الإسلام (د. أيمن إبراهيم، الإسلام والسلطان والملك، ص262)، كان الخيار المطروح بعد مقتل عثمان هو إما العودة إلى نظام عمر بن الخطاب الذي اعتمد أساسا على المصالح القبليّة وقيمها، وإما الاستمرار على نهج عثمان من واقع النظام الجديد الذي يعتمد على أولويَّة المصالح القُرشيَّة، وقد توزّعت مواقف الصحابة بخاصة، والمسلمين بعامة بين هذين الخيارين، وقد تبنى علي -رضي الله عنه- مطالب الثائرين في حين جسَّد معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- الاستمرارية الحيّة المباشرة لنهج عثمان -رضي الله عنه- (محمد سهيل طقّوش، تاريخ الخلفاء الراشدين، ص 429).
أخيرا، كان ما سبق نبذة موجزة لأهم الأحداث السياسية التي شكلت فترات ما بعد حقبة خلافة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسنواصل الحديث لاحقا عن الشقاق الفكري الذي ما زال يتوسع مع الزمن، وتتعمق هوته، والذي بدأ بصورة ظاهرة في منتصف عهد عثمان، رضي الله عنه.
التعليقات