إياد أبو شقرا
لغتنا العربية من أجمل لغات الأرض وأغناها معاني وبلاغة وتورية.
بمقدور هذه اللغة أن تقدّم الهزائم على أنها انتصارات، والاستسلام على أنه كياسة، والخيانة على أنها بُعد نظر، والالتفاف على الحقائق وخداع الذات والآخرين على أنها من أصول السياسة التي هي «فن الممكن».
بالأمس، في بعض أقطارنا العربية المشرقية الجريح، حصرنا التعصّب والإرهاب بفريق دون آخر لا يقل عنه تعصّباً وميلاً للإرهاب. وفي أقطار مجاورة لها تأقلمنا مع احتلال أجنبي بواجهات محلية تزايد على الوطنيين الحقيقيين... بالوطنية والتحرير!
ومن ثم، في جو إقليمي مكفهر، غامض، رهاناته باهظة الثمن، وخطوط الرجعة فيه مقطوعة أو ممنوعة، اختلط التواطؤ الدولي مع سوء القراءة، وروّجت الأكاذيب على أنها مفاوضات، والمؤامرات على أنها مبادرات سلام، وفي الحصيلة النهائية ها نحن أمام واقع ديمغرافي مختلف.
التوصل إلى هذا الواقع الديمغرافي المختلف لم يفاجئ سوى شارعنا العربي الساذج الذي ما زال مأخوذاً بالشعارات البراقة. بل، أن قطاعاً منه ما زال يحاول الدفاع العبثي حتى بعد انكشاف المواقف، وعقد الصفقات الكبرى فوق أنهار الدماء وأشلاء الأوطان.
في سوريا تشير الأحداث المتسارعة في الجنوب إلى تصفية المجتمع الدولي مقاومة شعب انتفض من أجل كرامته. لقد احتاج المجتمع الدولي إلى سبع سنوات للقضاء على ثورة كرامة ضد نظام درجت دوائر القرار السياسي في الولايات المتحدة – تحديداً – على إدراجه سنوياً كداعم للإرهاب.
هذا النظام «الداعم للإرهاب»، وفق قوائم وزارة الخارجية الأميركية، بات الآن علنياً «الحل». الشريك الأمني «الضامن للاستقرار والاعتدال» في وجه الإرهاب، غدا علنياً ليس فقط «صندوق بريد» بين اللاعبين الإقليميين، بل صلة الوصل بينهم. ومن ثم، ما عاد أمام الشعب، الذي ثار أطفالاً وشباناً وشيباً قبل 7 سنوات، إلا الاستسلام لجلّاديه باسم «المصالحة» في قاموس سياسي جديد قديم.
في عددها بتاريخ الخميس 28 يونيو (حزيران) نشرت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية الوقورة تقريراً متميزاً بعنوان «كيف يغير المنتصر بشار الأسد سوريا». وفيه تذكر باختصار أن الحرب «طردت المسلمين السنّة... وأن سوريا الجديدة أصغر حجماً، مدمَّرة، وأشد طائفية».
التقرير تضمّن أرقاماً ومعلومات عن عمليات التدمير والتهجير الطائفي والتبادل السكاني. وانطلاقاً من مدينة حمص، حيث حقق النظام بفضل التواطؤ الدولي أول «انتصاراته» الديمغرافية على شعبه، كتب التقرير: «حمص، مثلها مثل كل المدن التي أعادت الحكومة السيطرة عليها، هي الآن بحوزة أقليات سوريا المنتصرة: المسيحيون والشيعة والعلويون... هذه الجماعات تجمّعت وتكتّلت ضد الثوار، الذين هم بغالبيتهم العظمى من السنّة، وطردتهم من المدن. وبعد هؤلاء ألحقت بهم المدنيين السنّة الذين كانوا غالبية السكان. أكثر من نصف عدد سكان البلاد البالغ 22 مليوناً هُجّر – 6.5 مليون داخل سوريا و6 ملايين خارجها. جلّ هؤلاء من السنة».
هذه مجرّد فقرة من التقرير، وهي وإن كانت تعطي فكرة واضحة عن السياق العام، فإنها تلمح ولا تصرّح بأن المجتمع الدولي مرتاحٌ لما حصل ويحصل في سوريا. على الأقل، قادة أوروبا الغربية، يفضلون التطبيع مع ديكتاتور على أن يواجهوا طوفان لجوء جديد.
غير أنني أعتقد أن الصورة أكبر وأشمل من ذلك. أزعم أن مهمّة نظام حافظ ثم بشار الأسد لم تتغيّر. وأزعم أن الموقف الدولي من الإسلام السياسي السنّي، تحديداً، لم يطرأ عليه تغيير يذكر بين حقبة رئيس الوزراء البريطاني ويليام غلادستون في القرن الـ19... وعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما في القرن الـ21.
المشكلة في الإسلام السنّي و«ثقليه» الديمغرافي والسياسي وانتشاره الجغرافي. الإسلام السنّي يشكل نحو 75 في المائة من مجموع مسلمي العالم، وهو الذي يتاخم أتباع الديانات الأخرى. إنه «الفزاعة» في الضمير الديني، وهو الإسلام المقاتل التي شُنّت «حروب الفرنجة» (الحروب الصليبية) لاسترجاع القدس منه. هو الذي غزا أوروبا مرّتين، الأولى في القرن الثامن الميلادي عبر إسبانيا وصولاً إلى فرنسا، والأخرى في القرن الـ15 مع فتح القسطنطينية (إسطنبول)... والتقدم بعد ذلك لـ«حصار فيينا» عام 1529م، وبعدها «معركة فيينا» عام 1683 التي استهلت حرباً عثمانية نمساوية طالت 15 سنة. وهو، أيضاً الإسلام «الانتحاري» – كما يؤمن أوباما – الذي شن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في قلب أميركا.
ومن ثَم، فإن «تحالف الأقليات» ليس شعاراً فارغاً. وهذا ما اتفقت على دعمه كل قوى العالم. من الصين التي تحارب توق الويغور السنة للاستقلال بإقليم سنكيانغ (تركستان الشرقية)، والهند التي بنى زعيمها الهندوسي ناريندرا مودي «شرعية» حكمه على مقاومته والتغلب عليه في بلد تسامح غاندي وديمقراطية نهرو... إلى الغرب الأوروبي والأميركي بتاريخه الطويل في مواجهة هذا الإسلام داخل آسيا وأفريقيا. وإن ننسى، فلا يجوز أن ننسى «قياصرة» روسيا القدامى والجدد في حروبهم مع الإسلام السنّي في حوض الفولغا والقوقاز وآسيا الوسطى، وأحدثها حرب الشيشان.
أوباما ليس وحده الذي برّر التحالف مع إيران، مع أن أحداً قبله لم يستخدم حجة أن نظام الملالي «ليس انتحارياً» مثل «القاعديين» و«الدواعش». ذلك أن هذه النظرة موجودة عند كثيرين، وإن كان هؤلاء – باستثناء فلاديمير بوتين – لم يصلوا إلى موقع القرار الدولي الحاسم.
وزيرة بريطانية سابقة زارت مكاتب «الشرق الأوسط» قبل سنوات قليلة، وتناقشنا معها حول الأزمة السورية. الوزيرة السابقة كانت في طليعة المتعاطفين مع الأكراد إبّان حملات الجيش العراقي ضدهم، كما كانت من مؤيدي إطاحة حكم الرئيس العراقي السابق وجامعي التبرّعات للعراق أثناء الحصار الذي سبق الغزو. إلا أنها بمجرد الكلام عن سوريا، دافعت عن الأسد، ورفضت أي مقارنة بين الحالتين العراقية والسورية، مكرّرة أن ليس هناك أمام السوريين إلا العودة إلى سوريا والعيش في ظل النظام.
هذا المنطق المقلوب نفسه، ردّده ويردّده كثيرون من القادة السياسيين والدينيين الغربيين.
هؤلاء هم الذين انتصروا في سوريا على شعبها اليوم.
وهؤلاء هم الذين يؤسّسون لراديكاليات خطيرة وهدّامة وحاقدة، العالم كله – وليس العالم الإسلامي فقط – بغنى عنها.
التعليقات