عبد الوهاب بدرخان
يدرك مرشد الجمهورية في إيران أن الأمور لم تعد كما يُرام في «إمبرطورية الأوهام». دليله إلى ذلك نقاش محموم يدور في الوسط السياسي ومختلف دوائر السلطة، على وقع إضراب في البازار وغضب متصاعد في الشارع وفي المحافظات كافةً. لم تعد الأزمات التي أشعلتها إيران في «العواصم الأربع»، بل أصبحت في طهران نفسها، وإذا لم تكن نتيجة طبيعية للسياسات التي أمر بها فما عساها تكون؟ وإذا لم تكن تلك السياسات بُنيت على أخطاء فلماذا هذا التأزّم الآن؟ مضى الوقت الذي كان المرشد يفاخر فيه بالاستقرار في إيران وبالتواؤم بين السلطة والشعب ويدعو الشعوب الأخرى إلى التمثّل بالنموذج «الثوري» الذي ابتدعه الملالي.
جاء وقت اعتلى فيه المرشد المنبر ليجيّر انتفاضات «الربيع العربي» إلى السياق الذي اتّبعته «الجمهورية الإسلامية» قبل عقدين ونيّف من تلك الانتفاضات العربية. كان يتكلّم كما لو أنه المحرّك الفعلي للشارع العربي ويقول للأنظمة والحكومات المتهاوية إن شعوبها اختارت -كما الشعب الإيراني- تيارات «الإسلام السياسي» وجماعة «الإخوان المسلمين»، وإن هؤلاء لن يجدوا مثالاً يسترشدونه غير المثال الإيراني. وعندما تعثّرت تلك الانتفاضات، راح المرشد يركّز على «الاستثمار» الإيراني في إخفاقاتها، بل في تعميق هذه الإخفاقات لمصلحة أجندة إيرانية خالصة. وهو ما تمثّل باحتقار كامل للشعوب في سوريا والعراق واليمن، وتجاهل تامٍّ لمآسٍ ساهمت طهران في صنعها، حتى بات المرشد يتغطرس في التعامل مع الرؤساء ورؤساء الحكومات، فهو يحكمهم ويديرهم بواسطة رجاله كقاسم سليماني وحسن نصرالله وعبدالملك الحوثي وقادة ميليشيات «الحشد الشعبي» العراقي.
في أي حال يتعامل المرشد الآن بالطريقة نفسها مع شعبه ومع حسن روحاني، من خلال مستشاريه وقادة «الحرس الثوري» و«الباسيج». وكان لافتاً أن يردّ علي خامنئي على إضراب البازار بحثّ القضاء على التصدّي لمن «يكدّرون الأمن الاقتصادي»، فيما اعتبر الحرس مساعدة الحكومة على تجاوز المشاكل الاقتصادية «واجباً وطنياً». كيف يمكن للقضاء أن يتحرّك إذا كانت غالبية «المكدّرين» من زبانية النظام ومحمييه، وكيف يُستجاب الواجب الوطني متى كان «الحرس» المسيطر على المداخيل جزءاً من المشكلة الاقتصادية وليس جزءاً من حلّها. لم يبقَ لروحاني والحال هذه سوى الاستنجاد بـ«الوحدة الوطنية»، لكنه يعرف أن الشعب صبر ولم يخلّ بتلك الوحدة طوال أعوام العقوبات وإذ يعبّر حالياً عن غضبه ونقمته فليس لأنه لم يعد «وطنياً» بل لأن مداخيله ومدّخراته تتبخر بسبب التضخّم وانهيار العملة واضطراب أسعار صرفها، ولأنه يلمس أن المغامرات الخارجية تلتهم جانباً كبيراً من الموارد المحدودة أصلاً.
إذن فهي مشكلة سياسية اقتصادية لها أسبابٌ وجذور، أي مشكلة داخلية أولاً مرتبطة بالعقلية السياسية البالية والسائدة، ولم يعد الشعب قادراً على تحمّلها أو السكوت عنها. لدى روحاني حلول وخيارات أعدّها له خبراؤه لكنها لا تستند إلى احتياطات مالية في تصرّف حكومته، ثم إنها تصطدم دائماً بالسياسة العليا التي تميل إلى تطبيق نظرية خامنئي لـ«الاقتصاد المقاوم» الذي يغرف من مردود التقشّف الداخلي للإنفاق على التوسّع الخارجي. هذا اقتصاد مخاتل يبيع الناس شعارات ويحجب عن البلد ما يحتاجه من تنمية وتطوير في كل المجالات غير العسكرية. ولدى روحاني اقتراحات للتحاور مع الولايات المتحدة، رغم أنه كرر أخيراً أن الأزمة ليست من تأثيرات العقوبات، لكنه مدرك أن العقوبات الجديدة المتصاعدة وصولاً إلى منع الشركات من استيراد النفط الإيراني بحلول مطلع نوفمبر المقبل، ستصيب عصب «الاقتصاد المقاوم» وستكون مؤلمة جداً. غير أن هذا التحاور مع أميركا يصطدم أيضاً بالسياسة العليا التي يقودها المرشد، وإن كان يجيزه عبر القنوات السرّية أو غير المباشرة.
ما يفاقم أزمة المرشد مع سياساته أن ثمراتها السورية والعراقية واليمنية تتأخّر أو في صدد أن تتبخّر. وما هجمات حشمت الله فلاحت بيشة (رئيس لجنة لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى) والنائب بهروز بنيادي على روسيا ورئيس النظام السوري، سوى عيّنة مما يفكّر فيه كثيرون بصمت. ودلالة ذلك أن ملالي النظام ورجالاته يستشعرون الخسائر، إذ لم يعد خافياً أن كلمة السر في سوريا باتت «إخراج إيران»، ومن المرجّح أن تكون أحد محاور القمة المرتقبة بين الرئيسين الأميركي والروسي، كما أن التطوّرات الحكومية في العراق لم تستقرّ بعد لمصلحة طهران، أما في اليمن فكلّما أرجأت إيران إنهاء الحرب تعمّق مستنقع الهزيمة لحوثييها.
التعليقات