محمد فايز فرحات
ظل إقليم الشرق الأوسط موضوعاً للمبادرات والمشاريع الدولية خلال مراحل تاريخية مختلفة. وسواء كانت هذه المبادرات/ المشاريع ذات طابع صراعي أو تعاوني، فقد ظل قدر الإقليم دفع تكاليف مباشرة لهذه المشروعات، أو عدم القدرة على توظيف بعض الأبعاد الإيجابية لهذه المبادرات. يرجع ذلك إلى عوامل عدة، يتعلق بعضها بطبيعة بعض هذه المبادرات، والتي انطوت على استهداف دول الإقليم، أو طابعها السياسي- الأمني، أو كون هذه المبادرات/ المشاريع جاءت غالباً من قوى غربية، الأمر الذي حملها بالخبرات التاريخية السلبية في علاقات الإقليم بهذه القوى. وتعلّق بعضها الآخر بعدم قدرة دول الإقليم على الاستفادة من هذه المبادرات وتعظيم الجوانب الإيجابية فيها.
ومع طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة «الحزام والطريق» خلال العام ٢٠١٣، بمكونيها البري (الحزام الاقتصادي لطريق الحرير)، والبحري (طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين)، والتي تستهدف في جوهرها تعميق حالة «التكامل» بين الاقتصاد الصيني وعدد من الأقاليم، من خلال إنشاء شبكات معقدة من الطرق البرية والحديدية عابرة الدول والأقاليم، وعدد من الممرات الاقتصادية، وسلسلة من الموانئ البحرية والبرية، ومناطق الخدمات التجارية اللوجيستية، يثور من جديد الجدل حول إمكانية استفادة الدول العربية من هذه المبادرة المهمة، باعتبار الشرق الأوسط أحد المناطق المهمة على مسارها بمكونيها البري والبحري.
هناك محددات وشروط كثيرة لاستفادة العالم العربي من هذه المبادرة المهمة، لكن ربما يكون من المفيد أولاً الوقوف على طبيعة هذه المبادرة، وفلسفتها الأساسية، ذلك أن هذا الفهم يمثل مدخلاً أساسياً للتعامل العربي معها. كما أن طبيعة المبادرة تنطوي على فرص مهمة للاستفادة العربية منها- ليست حزمة القروض والمساعدات الصينية المعلن عنها خلال الاجتماع الوزاري الأخير لمنتدى التعاون الصيني العربي سوى إحد أشكالها- لكن ذلك يتطلب جهوداً عربية. أول تلك السمات أن المبادرة تقوم على فلسفة تتجاوز المفهوم الجغرافي التقليدي الضيق لمشاريع التعاون الإقليمي، بمعنى أنها لا تستند إلى تعريف جغرافي وجيو- سياسي مغلق يقصرها على إقليم جغرافي محدد. بل على العكس، فقد استندت المبادرة منذ البداية إلى نطاق جغرافي واسع، يسمح بضم أكبر عدد ممكن من الدول المتباينة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ومعظم الأقاليم الجغرافية (شرق آسيا، جنوب شرقي آسيا، جنوب آسيا، وسط آسيا، الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وسط أوروبا)، وشملت ٦٥ دولة. وتأتي أهمية هذه السمة أنها تسمح، أولاً، باستفادة أكبر عدد ممكن من الدول النامية من المبادرة. وتحرر المبادرة، ثانياً، من الإدراكات السلبية المحتملة، أو النظر إليها باعتبارها «مشروعاً صينياً» موجهاً ضد الغرب، خصوصاً في ضوء دمج أقاليم أوروبية في المبادرة. من ناحية أخرى، تقوم المبادرة على الربط الوثيق بين التجارة والتنمية، خصوصاً تنمية البنية التحتية. ويعيدنا هذا إلى خبرة مشاريع الدول النامية في توسيع التجارة الإقليمية البينية، فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين الإعلان عن عدد من مشاريع التكامل الإقليمي وتحرير التجارة في الدول النامية (في الشرق الأوسط، والقارة الأفريقية، وجنوب آسيا)، إلا أنها لم تستطع تحقيق أي من أهدافها المعلنة، خصوصاً توسيع حجم التجارة الإقليمية بين الاقتصادات الأعضاء، لأسباب كثيرة، منها أن عملية تحرير التجارة لم تقترن، بإعادة هيكلة تلك الاقتصادات على نحو يضمن ارتباط عملية تحرير التجارة بخلق سلع وخدمات يمكن تبادلها بين تلك الاقتصادات. وهكذا، فشلت المبادرات الإقليمية لتوسيع التجارة الإقليمية في أقاليم الدول النامية -والتي سعت إلى توسيع حجم التجارة الإقليمية البينية- في تحقيق هذا الهدف بسبب عدم ارتباطها بسياسات ومشاريع تنموية حقيقية. من هنا تأتي أهمية مبادرة «الحزام والطريق»، كونها ليست مجرد مبادرة تسعى إلى تسهيل وتوسيع حجم التجارة بين الأقاليم والدول المندمجة فيها، من خلال إزالة العوائق المادية أمام هذه التجارة وتخفيض تكاليفها، بقدر ما تنطوي على أبعاد تنموية من خلال مشاريع مهمة لتنمية البنية التحتية وتوفير التمويل اللازم لهذه المشروعات. وبهذا المعنى، فإن مبادرة «الحزام والطريق» تنطوي على مكاسب اقتصادية محتملة للدول النامية المعنية، بالنظر إلى انطوائها على مشاريع تنموية جنباً إلى جنب مع التجارة.
وتأتي أهمية الإنفاق الضخم على البنية التحتية أنه يساهم، من ناحية، في خلق فرص كبيرة لزيادة إنتاجية القطاع الخاص وفرص مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بالنظر الى الدور الذي تساهم فيه تلك البنية في زيادة القيمة المضافة لباقي عناصر الإنتاج (الأرض ورأس المال بالأساس). من ناحية ثانية، فإن الاستثمار في البنية التحتية يساهم في خلق فرص عمل جديدة، ومن ثم تخفيض معدل البطالة. ومع أهمية النموذج الصيني في التنمية، إلا أن المبادرة تؤكد احترام حق كل دولة في تحديد مسارها التنموي الخاص بها.
من ناحية ثالثة، تمتلك المبادرة الكثير من مقومات النجاح، كونها تأتي من دولة كبيرة، ذات اقتصاد قوي، ما زالت تقدم نفسها باعتبارها دولة نامية، الأمر الذي يحررها من المخاوف التي ارتبطت بالكثير من المبادرات التي أعلنتها الدول الغربية، والتي سعت بالأساس إلى تكريس هيمنتها على النظام العالمي، وأسواق الدول النامية وضمان تبعيتها للاقتصادات الرأسمالية الكبيرة. يصدق ذلك على المبادرات السياسية والاقتصادية. ولم ترتبط بهذه المبادرات/ المشاريع الغربية مكاسب حقيقية للدول النامية (راجع على سبيل المثال المبادرات الغربية المتعددة حول الشرق الأوسط الجديد تارة، والكبير تارة، والموسع تارة أخرى، وكذلك منطقة التجارة الحرة الأوروبية مع دول مجلس التعاون الخليجي). وفي المقابل، تمتّعت مبادرة «الحزام والطريق» بردود فعل إيجابية سريعة من عشرات الدول، الأمر الذي يعكس وجود إدراكات إيجابية كبيرة حولها لدى قسم كبير من الدول النامية في مختلف الأقاليم.
ويرتبط بالنقطة السابقة استناد المبادرة إلى شبكة من العلاقات والأطر الاقتصادية والتجارية بين الصين ومعظم الدول والأقاليم الواقعة على مسارها، فبالإضافة إلى الأطر الإقليمية المنظمة لعلاقات الصين بدول جنوب شرقي آسيا (10+ 10)، ودول آسيا المحيط الهادئ من خلال عضوية الصين في منتدى «آبك»، ودول وسط آسيا من خلال منظمة شنغهاي للتعاون، ترتبط الصين مع عدد كبير من الدول الواقعة على مسار المبادرة من خلال اتفاقات تجارة حرة (بلغت 12 اتفاق تجارة حرة حتى أوائل عام 2017، تسعى الصين إلى 60 اتفاقاً)، وعدد من مناطق التعاون التجاري والاقتصادي (وصلت إلى 56 منطقة بنهاية سنة 2016 مع 20 دولة من الدول الواقعة على مسار المبادرة، باستثمارات إجمالية تتجاوز 18 بليون دولار). كما بلغ حجم الاستثمار الصيني المباشر في الدول الواقعة على مسار المبادرة خلال عام 2016 حوالى 14.5 بليون دولار.
بالإضافة إلى ذلك، هناك مقوم آخر شديد الأهمية يتمثل في وجود عدد من المؤسسات المهمة التي تعمل كأذرع مالية للمبادرة، بهدف توفير التمويل اللازم لمشروعاتها المختلفة. يأتي في مقدم هذه المؤسسات «صندوق طريق الحرير» الذي أسسته الحكومة الصينية لهذا الهدف خصيصاً، في كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤، برأسمال قدره ٤٠ بليون دولار، و «البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية»، والذي دخل اتفاقه حيز التنفيذ في أواخر ٢٠١٥. وبدأ البنك توفير التسهيلات لتنفيذ مشاريع المبادرة، ويتوقع أن يصل متوسط مساهماته إلى ١٥ بليون دولار سنوياً. وبالإضافة إلى هذه المؤسسات، لا يمكن إغفال دور البنوك الصينية التي بدأت في تقديم حزمة من القروض والائتمان لتمويل مشاريع المبادرة. وعلى رغم عدم وجود جدول زمني لحجم الاستثمارات الصينية المتوقعة في إطار المبادرة، لكن يتوقع وصول حجمها إلى 4 تريليونات دولار، يتركز معظمها في مجال البنية التحتية.
هذه السمات تمثل مقومات مهمة لاستفادة العالم العربي من المبادرة، لكن الأمر يتطلب رؤية عربية أكثر وضوحاً، وهو ما قد نناقشه في مقال آخر.
التعليقات