هل لدينا حقا ثقافة القرارات الكبرى في الاجتهاد القضائي؟

إدريس فجر

السؤال أعلاه معناه أن قاضي اليوم وبأية محكمة كان عليه أن يلتزم أدبيا باجتهادات قاضي النقض بالأمس والتي صدرت في سنة 1957؛ وهي اجتهادات غنية ورائدة بكل ما في الكلمة من معنى، سواء من حيث الشكل والمضمون والصياغة ومنهجية التعليل. ومن ينازع أو يجادل ما عليه إلا أن يرجع إلى الأعداد القديمة لمجلة قضاء المجلس الأعلى من 1 إلى 50 مثلا..

أم أنه في الواقع ليست لنا هذه الثقافة.. ومن ثم، فإن كل محكمة أو غرفة "تلغي بلغاها"... بمعنى تتكلم وتتحدث بلغتها وفهمها الخاص للقانون والوقائع، وتعول على فكرها واجتهادها دون أن تلتفت إلى ما سبق من قرارات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مع أنها "قرارات كبرى" (les grands arrets) بالمقياس المغربي... والله أعلم..

ثقافة "القرارات الكبرى" لها شرط أساسي وجوهري، ألا وهو نكران الذات والنزاهة الفكرية والموضوعية في المناقشة واتخاذ القرارات، وإن الحقيقة القضائية نسبية وكل واحد يسهم فيها بما يسره ووهبه الله له من فكر والقدرة على الاجتهاد، وإلا ما كان القاضي الفرنسي الإداري في سنة 2018 ومعه الباحث الأكاديمي بل يجدان أدنى حرج أو عقدة للرجوع إلى حكم بلانكو الشهير arret BLANCO الصادر سنة 1873... انظروا إلى تواضع القضاة الكبار والفقهاء الراسخين في علم القانون وهم يحفظون تراثهم القضائي ولا يتبرؤون منه..

إنها ثقافة الاعتراف بمن سبق وبمن ابتكر وبمن أسس، ولا أحد عندهم نسب النجاح والمجد إليه وحده، كلهم يكملون بعضهم بعضا... كم يبدو المشهد الحقوقي عندهم رائعا..

ثقافة "القرارات الكبرى" تتعارض كليا مع مقولات فيها بعض الأنانية من قبيل: "احنا أولاد اليوم" أو "الماضي فات الاجتهادات عاد بدات"... الله أكبر !

الله يرحمنا ويغلبنا على خلافاتنا واختلافاتنا، وإن كان في الاختلاف رحمة، قولوا آمين يا رب العالمين؛ ولكن يجب الاعتراف كذلك بأن وزارة العدل لم تكن تتوفر، إلى غاية 2016، على مكتب فني تكون مهمته جمع هذه القرارات الكبرى في المدني والإداري والاجتماعي والجنائي إلخ... كما أن أية مؤسسة خاصة بالمغرب تهتم بالنشر والطباعة والتأليف الحقوقي لم تهتم بالموضوع كما تفعل دور DALLOZ دالوز وSIREY وLGDJ بفرنسا مثلا.. وإن كان المغفور له الحسن الثاني نبه، في إحدى خطبه الموجهة إلى القضاة والقضاء، إلى ضرورة نشر قرارات النقض وتعميمها ليكون المتقاضي على علم بها وبصناعة القضاء المغربي التي كان يفتخر بها المغفور له الحسن الثاني، إذ قال إنه يحتفظ في خزانته ببعض قرارات المجلس الأعلى التي يقدرها ويعزها.. وقد حاول محمد ميكو، الرئيس الأول السابق للمجلس الأعلى، تنفيذ التوجيهات الملكية قدر المستطاع منتصف التسعينيات من القرن الماضي؛ وهو ما أعاد الروح إلى بعض المجلات القضائية والحقوقية، وشجع بعض الأقلام القضائية والجامعية على الكتابة والمساهمة فيها، لله في سبيل الله، وبدون بزنس، الله يرحم الجميع.