& محمد السعيدي

في الخامس من رجب 1439 نشرت صحيفة «واشنطن بوست» المشتهرة بمناوأتها المملكة لقاء مطولا مع الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ووزير الدفاع، ولعل السبق في ترجمة هذا اللقاء ونشر الترجمة على أوسع نطاق كان من نصيب الإعلام المعادي للسعودية، حيث ترجموه كما يحلو لهم وبما تمليه عليهم أهواؤهم وتوجهاتهم، بل قاموا بتجزيء اللقاء ونشر كل جزء على حدة، وفق الفكرة المُسِيئة التي يريدون إلصاقها بنا.

ومما نشروه أن الأمير محمد بن سلمان قال «نشرنا الوهابية بطلب من الحلفاء» والمؤسف: أن هذه المقولة الكاذبة المنسوبة زورا لحوار الأمير نَقَلَتْها بعض وسائل الإعلام السعودية في حينه، وتداولها كُتَّاب سعوديون ومواقع إلكترونية محلية، ولم يُكْتَب نفي صحفي ولا رسمي لها، والغريب أن البعض كان ينقلها مسرورا بها غافلا عن مقاصد الأعداء منها ومآلات انتشارها، وهذا مما يؤكد أن في داخل إعلامنا من هو منفصل عنَّا لا يعرف ما نريد ولا ما يُراد بنا، وشيوع هذه الكذبة وكثرة تدويرها دون اعتراض من أحد جعلني آنذاك أفترض: أن الترجمة صحيحة وأن الأمير قال ذلك لاعتبار دبلوماسي، فكثيرا ما يطرح المسؤولون السياسيون في كل دول العالم رؤيتهم بأساليب قد لا تُفصح عن حقيقة ما يجري أو ما يؤمنون به لاعتبارات تتعلق بالزمان والمكان والفئة المستهدفة من الخطاب، وأعتقد أن كثيرين غيري افترضوا كما افترضت، وأن كثيرين أيضا ذهبت بهم الظنون كل مذهب.

وفي هذه الأيام وبعد عام من نشر ذلك المقال، انتشر في الدول المغاربية، وبين القراء المغاربة في غرب أوروبا، مقال يعيد فيه صاحبه هذه الترجمة المكذوبة، ويبني عليها نتائج وتوصيات أملاها عليه حقد أعمى جعله يبتعد بكل ما كتبه عن معايير الدين والأخلاق من العدل والتبين والتماس الأعذار، منها مطالبته بسحق السلفيين واجتثاثهم وإغلاق مدارسهم ومساجدهم، على اعتبار أن السلفية لم تنتشر إلا بأمر حلفاء السعودية والذين يفترض الكاتب أنهم دول الغرب.

وراسلني بالمقال بعض الأحبة المغاربة وحدثوني عن احتفاء الحاقدين به، وطلبوا مني إيضاحا يُجلي حقيقة الأمر، عندها رجعت إلى أصل الكلمة بالإنجليزية من موقع «واشنطن بوست» فوجدتها كما يأتي:

«mohammed said that investments in mosques and madrassas overseas were rooted in the cold war, when allies asked Saudi Arabia to use its resources to prevent inroads in muslim countries by the soviet union»

وقمت بإدخال النص في خدمة الترجمة على محرك البحث العالمي جوجل فبدا الأمر على خلاف ما أفكه الأفاكون، وبالطبع لم أكتف بذلك، بل عرضت النص على ثلاثة من الضليعين في الترجمة بين الإنجليزية والعربية فجاء جوابهم متقاربا وهو ما يأتي: «أجاب محمد بأن انتشار المدارس والمساجد في خارج السعودية قد تعمق بتأثير الحرب الباردة عندما طلب الحلفاء من السعودية استخدام مواردها لمنع دخول الأقطار الإسلامية تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي».

فجواب الأمير لا توجد فيه كلمة وهابية أصلا، وإنما جاءت الكلمة في سؤال الصحيفة، لكن الكاذب الذي زور الترجمة قام متعمدا بالخلط بين السؤال والجواب.

وما قال الأمير للصحيفة يَظهر منه أن منهج المملكة منذ قيامها خدمة المسلمين أينما وجدوا ومن أمثلة ذلك بناء المدارس والمساجد، لكن هذا النهج تعمق بعد قيام الاتحاد السوفييتي بنشر أيديولوجيته الماركسية في العالم الإسلامي، فقد كانت تلك الأفكار اليسارية الإلحادية الثورية لا يمكن مقاومتها إلا بالدين، وكانت السعودية أصدق الدول وأكثرها قبولا بين المسلمين، كما أن المنهج السلفي هو المنهج الوحيد القادر على صد الفكر الماركسي، كما أنه الأقدر على صد الفكر الغربي الليبرالي، وذلك لعقلانيته وخلوه من تقديس الخرافات وأسر عقل الإنسان للشيوخ والمقابر والمزارات والرؤى والمنامات وأصحاب الكرامات، لذلك كانت السلفية هي الأقدر على حماية المسلمين من أي مد شرقي أم غربي.

فانتهزت المملكة هذه الفرصة فسخرت جزءا من مواردها المالية والثقافية لنشر التدين الصحيح ليس في العالم الإسلامي وحسب، بل حيث يوجد المسلمون في بلاد الشرق والغرب، أما حلفاء السعودية فالمقصود بهم كل الدول الإسلامية التي كانت تتوجس خيفة من المد الماركسي، وأيضا كل الدول الغربية التي أذنت للمملكة ببناء المساجد والمدارس الإسلامية في كل العواصم الأوروبية والأميركتين وأستراليا واليابان، وليس في كلمة الأمير ما يشير إلى أن الحلفاء هم دولة دون أخرى.

لقد كان المنهج السلفي الذي يمتد نوره من المملكة هو الإسلام بصورته السهلة الميسرة وكما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكما فهمه عنه السلف الصالح، رضي الله عنهم، لذلك وجد في العالم كله قبولا وانتشارا سريعين اكتسحا كل ما واجهاه من الأفهام المعقدة والخرافية للإسلام، وهو في أيامنا هذه المنهج الوحيد القادر على صد المد الصفوي الذي تسعى إيران لنشره، وقد أشار إلى ذلك الأمير محمد في ذلك اللقاء نفسه مع «واشنطن بوست» فقال «أعتقد أن الإسلام منطقي والإسلام بسيط، والناس يحاولون اختطافه»، وحقا قال، فالإسلام البسيط غير المعقد هو الإسلام بفهم السلف، أما دعوات التكفير والعنف فلم تخرج من السعودية وإنما خرجت من دول عربية أخرى، لذلك تجد قادة ومنظري جميع الجماعات التكفيرية ليس منهم واحد من السعودية، جماعة التكفير والهجرة وجماعة التوقف والتبين وتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، كل هذه التنظيمات ليس منها ما نشأ داخل السعودية، وليس فيها واحد تولى قيادتها التنظيمية أو الفكرية من يحمل الجنسية السعودية، والاستثناء الوحيد هو أسامة بن لادن الذي لم يعتنق الفكر التكفيري إلا حين خرج من السعودية واختلط ببقايا الجماعات المتطرفة من مصر وغيرها، وكان ضعيف العلم، فتخطفه أولئك الشياطين حتى أردوه في المهالك، هذا هو الظاهر منه، أما الوثائق التي تخرج تباعاً فتشير إلى ما هو أسوأ من ذلك، وما شهدنا إلا بما علمنا.

المهم أن طريقة الصحابة الكرام في فهم الإسلام، والتي أسهمت المملكة في نشرها في العالم، لم ينتج عنها أي خلل أو تكفير، وأما ما حدث في العالم من إرهاب فالمسؤول الوحيد عنه هو سجون ودوائر مخابرات أنظمة عربية بائدة، وإيران الحالية، ودول عالمية، أما السعودية وسياستها وتعليمها وعلماؤها فهي -ولله الحمد- من كل ذلك براء.

والأمير محمد يقر في ذات اللقاء بأن هناك أخطاء في الدعم حدثت من بعض المؤسسات الخيرية الداعمة للعمل الإسلامي في الخارج، نتيجة ثقة من هذه المؤسسات ببعض من لا يستحقون شيئا من هذا الدعم لانتمائهم لجهات مشبوهة، لكن تلك الأخطاء لم تكن هي الغالبة، بدليل صدور أحكام البراءة في الولايات المتحدة لصالح عدد من المؤسسات السعودية، وليس هناك أي إدارة تابعة للحكومة السعودية وجهت إليها تهمة رسمية بدعم أي نوع من أنواع التطرف، ولذلك، ولتجنب المؤسسات السعودية الوقوع في أي إشكال فإن الحكومة السعودية تعمل على إدخال تلك المؤسسات غير الرسمية تحت إشرافها المباشر.

ولهذا قال الأمير محمد في اللقاء «إن الحكومات السعودية التي تلت الحرب الباردة لم تتحكم في تلك المؤسسات وتتابعها، ويجب إعادة الأمور إلى نصابها، حيث إن تمويل هذه المؤسسات يأتي من مؤسسات سعودية وليس من الحكومة».

وهذا النص يفيد تأكيد الأمير محمد أن السعودية لن تتخلى عن دعمها للعمل الثقافي والديني خارج المملكة، لكنها ستكون هي المسيطرة على هذا النشاط والمشرف المباشر عليه، ولن تتركه لمؤسسات خاصة عرضة للأخطاء الفادحة أو للاختراق.

وأخيرا أقول: إن التحريف المتعمد الذي وقع لكلمات الأمير وتم نشره على أوسع نطاق يعطينا درسا مهما في ضرورة التبين والتثبت قبل نشر مقالة السوء التي لا يهدف منها أصحابها إلا إلى إيقاد الفتن وتشويه صورة بلادنا أمام المسلمين.

كما يعطينا هذا الأمر مؤشرا لضعف إعلامنا الرسمي وغير الرسمي عن صد الإساءات التي لا تزال تطال بلادنا وقيادتها، وإلا فكيف تظل هذه الفرية تدور في العالم العربي والإسلامي، دون أن تجد لها من يفندها ويجلي الحق على أوسع نطاق كما استطاع المبطلون نشر الباطل على أوسع نطاق.

وأعتقد أن هذه الكذبة ما هي إلا واحدة من عشرات الكذبات التي لا تجد لها من يقف في طريق رواجها وانطلائها على العالم، فإلى الله المشتكى.