&محمد سيد رصاص&

في 26 تموز (يوليو) 2012، كتبت مقالاً في جريدة "الحياة" بعنوان: "الإخوان المسلمون وإيران"، بعد أن لفت نظري أن طهران كانت حينها من أول المهنئين بفوز محمد مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية، وأن ترحيب وسائل الإعلام الإيرانية بهذا الفوز وصل حد الاحتفال. بعد أيام من نشر المقال المذكور، اتصل بي صاحب "دار جداول" للنشر في بيروت السيد محمد السيف صاحب ليطلب مني كتاباً حول الموضوع، وصدر الكتاب في شباط (فبراير) 2013، بعنوان: "الإخوان المسلمون وإيران الخميني- الخامنئي". بعد سبع سنوات على كتابة المقال السابق الذكر، ومن ثم الكتاب، أشعر الآن بالحاجة إلى تناول الموضوع ذاته مجدداً.


في ذات الشهر الذي صدر فيه كتابي، قام الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد بزيارة القاهرة، في أول زيارة لرئيس إيراني إلى مصر منذ وصول الخميني إلى السلطة في طهران، التي استقبلت الشاه واحتضنته في عهد الرئيس الراحل أنور السادات.

على رغم الخلاف بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان و"المرشد" الإيراني علي الخامنئي حول الأزمة السورية، ظلت علاقتهما قوية، ثم اتجهت هذه الروابط القوية بهما إلى تحالف سوتشي الثلاثي، الذي يجمعهما منذ العام 2017 مع روسيا. علماً أن تباعد حركة "حماس" عن إيران و"حزب الله" بسبب الموضوع السوري، لم يقد إلى انفراط الروابط بين الرجلين، بل عادت هذه الروابط خلال العامين الماضيين إلى قوتها القديمة التي كانت قبل العام 2011.

في السياق ذاته، لاقت دولة قطر، التي وجدت نفسها في صدام مع الرياض وأبوظبي والمنامة والقاهرة منذ حزيران (يونيو)2017، حضناً إيرانياً يبدو أن السياسة ليست نسيجه الوحيد، بل يضاف إليها الروابط الفكرية – الأيديولوجية التي هي موجودة بين "الإخوان" و"الخمينية". صحيح أن دخول الحوثيين إلى صنعاء واستيلائهم عليها في 20سبتمبر (أيلول) 2014 تسبب بتوترات مع التنظيم "الإخواني" اليمني ("التجمع اليمني للإصلاح")، إلا أن تلاقيهما في الأعوام الخمسة الماضية فاق ما عداه، وخصوصاً بعد التقارب القطري - الإيراني منذ صيف العام 2017.

قد يقول قائل بأن ما حصل منذ شباط 2013 يثبت صحة مقولة الكتاب المركزية عن وجود مشتركات فكرية بين حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب والخميني، قادت إلى التلاقي السياسي بين "الإخوان" وبين إيران الخميني - الخامنئي، على رغم تصاعد التوتر السني - الشيعي في عموم العالم الاسلامي في الأربعين عاماً الماضية، وخصوصاً بعد سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي في عام 2003، والذي رافقه تحالف أميركي- إيراني في العراق المغزو والمحتل استمر حتى استئناف طهران لبرنامج تخصيب اليورانيوم في عام 2005.

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه على رغم كل ما سبق، هو: لماذا هذه المتانة القوية في العلاقة بين أكبر حركتين إسلاميتين حديثتين عند السنة والشيعة في ظل هذا التوتر السني - الشيعي، الذي يشبهه ساسة غربيون، مثل هنري كيسنجر، بالتوتر الكاثوليكي - البروتستانتي خلال قرنين أعقبا انشقاق مارتن لوثر كينغ عن كنيسة روما في عام 1517؟

هنا، يمكن القول أن المشتركات الفكرية ليست كافية لتفسير ترجمة علي الخامنئي لكتاب سيد قطب "المستقبل لهذا الدين" إلى اللغة الفارسية، ولا تدريس كتب سيد قطب في مدارس الإعداد العقائدي الخاصة بـ "الحرس الثوري الإيراني"، ولا إصدار الدولة الايرانية في عام 1984 طابعاً بريدياً يحمل صورة سيد قطب وراء قضبان الزنزانة، وهو الطابع ذاته الذي اختير غلافاً للكتاب. كما أن ذلك لا يفسر قول علي الخامنئي خلال خطلة الجمعة في الرابع من شباط (فبراير) 2011، إن "الثورة المصرية هي استمرار للثورة الإيرانية"، وذلك قبل أسبوع من تنحي الرئيس حسني مبارك، وبعدما اتضحت سيطرة "الإخوان" على الحركة الاحتجاجية المصرية ضد مبارك.

كل تلك المشتركات لا تكفي لتفسير ذلك، بل يجب التنقيب أكثر. من أجل ذلك، سأستعين بفرضية طرحتها في خاتمة كتابي، تتناول التلاقي بين "الإخوان" وإيران الخميني – الخامنئي، تنبع من بذرة طرحها السيد جمال الدين الأفغاني عن أن هناك "إسلاماً عاماً" يجمع جميع المسلمين ليتجاوز مذهبية المذاهب الأربعة عند السنة، ويتجاوز نطاق خلافات السنة والشيعة، ليجمع الجميع في بوتقته. هذا ما الذي دفع حسن البنا إلى الموافقة بحماسة في عام 1947 على انشاء "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية"، بالتعاون مع شيخ إيراني هو محمد تقي القمي.

كان رأي أستاذ البنا، أي الشيخ رشيد رضا، أن خلاف السنة والشيعة حول "الإمامة"، هو خلاف سياسي فقط وليس خلافاً إيمانياً، وأن زمانه انقضى. يمكن من خلال هذا، تفسير ما قيل، في المرويات الشفوية للمعارضة السورية، من أن وفد التنظيم العالمي لجماعة "الإخوان المسلمين" (ضم سوريين) الذي زار طهران بعد أربعة أشهر من وصول الخميني إلى السلطة في 11 شباط (فبراير) 1979، عرض على الأخير إحياء الخلافة الاسلامية وأن يقوم "الإخوان" بمبايعته "خليفة للمسلمين"، إذا قبل بما قاله رشيد رضا. لكن، يبدو أن الخميني تردد في ذلك، بسبب ما يعنيه قبوله بهكذا طرح من هدم للبناء العقائدي للشيعة الإمامية. على رغم هذا، يبدو أن فكرة الأفغاني شكلت أرضية فكرية جمعت "الإخوان" والخمينية، وهذا بالتأكيد أكبر من أي مشتركات فكرية، ذلك أن هذه الأرضية تجمعهما كاتجاهين فكريين - سياسيين في رؤية أوضاع المسلمين، وفي رؤيتهما للغرب الأوروبي - الأميركي، كما تجمعهما هذه الرؤى وتقودهما نحو حلول متقاربة، وإن اختلفا في التكتيكات.

وثمة نقطة إضافية في هذا الصدد، وهي أن فكرة "الحاكمية لله" التي قدمها أبو الأعلى المودودي في كتابه "المصطلحات الأربعة" في عام 1941، تجمع سيد قطب في كتاب: "معالم في الطريق" مع الخميني في كتابه: "الحكومة الإسلامية". والفرق بينهما هو في كيفية تحقيق الهدف، إذ يرى قطب أن ذلك يتم عبر "طليعة مؤمنة"، فيما يرى الخميني أن ذلك يتم عبر "ولاية الفقيه". كذلك، هناك النظرة الواحدة إلى الزمان بين الجهتين الأصوليتين، إذ يعتبر كل منهما أن هناك نقطة بدء تمثِل الأصل، يجسدها الزمن النبوي، يجب العودة إليها، وأن الزمان انحرف عن نقطة البدء التي يريدان العودة إليها كـ "نبع أول"، بعد أن "اختلطت الينابيع" وفق تعبير سيد قطب، الذي يتلاقى مع الشيعة في رؤيته (انطلاقاً من ذلك) لفترتي عثمان ومعاوية، وهذا واضح في كتابه "العدالة الاجتماعية في الاسلام" الصادر في عام 1949 .

يبقى السؤال: أليس كل ما تقدّم أكثر من مجرّد مشتركات؟ لا بل أقرب إلى أرضية واحدة تجمع بين إيران و"الإخوان"؟...