& علي العميم

&

كتاب أبي عبد الإله صالح بن مقبل العصيمي (من أخبار المنتكسين: مع الأسباب والنتائج) الذي جعله سليمان الخراشي خاتمة الردود على القصيمي التي جمعها في كتابه (عبد الإله القصيمي: وجهة نظر أخرى!) لا يصلح استعماله إلا بغرضين اثنين:
الغرض الأول: تلمّس تأثر حركة التأليف الديني في السعودية بالمؤلفات الإسلامية الحركية الحزبية في العالم العربي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكتاب المذكور لا يعبر عن المستوى العام للمؤلفات الدينية التي أصدرها صحويون سعوديون متأثرين بتلك المؤلفات الإسلامية الحركية الحزبية. إذ إن الكتاب المذكور كان محاكاة ساذجة وهزيلة لكتاب من كتب المنظر الإسلامي اللبناني، الحركي والحزبي، فتحي يكن، والذي أغلب مؤلفاته هي كراسات حركية وحزبية كانت فاعلة ومؤثرة في صفوف الحركة الإسلامية عامة في عقود سلفت. كتاب فتحي يكن الذي حاكاه أبو عبد الإله في كتابه (من أخبار المنتكسين) هو كتاب (المتساقطون على طريق الدعوة: كيف... ولماذا؟). وعنوان كتاب فتحي يكن هذا تحول بعد صدور الكتاب إلى اصطلاح شائع في كتابات الإسلاميين وفي إعلامهم، يستخدم بغرض النيل من الإسلاميين الذين يرون أنهم ما عادوا كما كانوا وبغرض العزاء الوجداني للذين يرون أنهم ما غيروا وما بدلوا وأنهم ما يزالون قابضين على الجمر. يعني فتحي يكن بالدعوة في عنوان كتابه، دعوة الإخوان المسلمين، ويعني بالمتساقطين الذين - كما قال - اختفوا من حياة الدعوة بشكل أو بآخر.

وهؤلاء قد قسمهم إلى فئات ثلاث: «فمن هؤلاء من ترك الدعوة ولم يترك الإسلام. ومنهم من ترك الدعوة والإسلام معاً. ومنهم من ترك الجماعة وأنشأ جماعة أخرى، أو التحق بجماعة أخرى».
وهكذا - كما يقول - تتكاثر وتتعدد ظواهر التساقط.
الفئة الثانية التي قال عنها إنها تركت الإسلام، ينبغي علينا أن نفهم جملته هذه لا على ظاهرها وإنما من خلال استبطان منطقة الداخلي الخاص الذي هو في غاية الغلو والتشدد. فأدناها أن يكون الواحد من هذه الفئة أصبح متساهلاً ومهملاً في أداء بعض الفروض الدينية ويقترف بعض المحرمات الدينية وأقصاها أن يكون مسلماً غير ممارس، أو كما ذكر هو في أحد أمثلته.
وهو المثال الذي قال فيه: «أذكر أنه في الخمسينات انضم إلى الحركة شقيقان اثنان كان أحدهما متطرفاً لا يقبل التساهل والتوسط في شيء وكان الآخر متساهلاً بعض الشيء. وكانت المشاحنات بينهما لا تنتهي بسبب ومن دون سبب. وأذكر أنهما جاءا يوماً يتلاعنان. يقول المتطرف: إن أخي هذا منافق مرتد. ويجب أن يقام عليه الحد. قلت: وما فعل؟
قال: لقد صلى الفجر اليوم بعد أن أشرقت الشمس... ثم لم تنقض عليه فترة من الزمان وهو على هذا الحال حتى حلق لحيته ووقع في غرام ابنة الجيران التي تمكنت بمكرها وكيدها من استلاب إيمانه وإخراجه من دينه وإسلامه، ليصبح بعد ذلك شيوعياً لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً».
في تنظيره السابق هو لا يجيز للمنتمي لدعوة الإخوان المسلمين - بأي حال من الأحوال - الخروج عنها، وحتى لو كان هذا الخروج ليس خروجاً عليها، وحتى لو كان الخروج عنها كان بسبب الضجر والملل!
وسيأتي في خطوة أخرى من تنظيره أنه موقن بأن دعوة الإخوان المسلمين هي الإسلام في العهد النبوي، وأن الإسلام في العهد النبوي هو دعوة الإخوان المسلمين في العصر الحاضر. وسيأتي فيها أن للزمن والتاريخ الإسلامي قطبين أوحدين ووحيدين، هما: عهد النبوة وعهد الإخوان المسلمين!
لهذا هو لا يجيز الخروج عن دعوة الإخوان المسلمين إلى دعوة إسلامية أخرى أو إنشاء فصيل إسلامي جديد. ولهذا اعتبر التنوع والتعدد في العمل الإسلامي ظاهرة مرضية أدت فيما قال إلى سقوط العاملين والدعاة في حمأة الصراع على الساحة الإسلامية!
ما سمَّاه ظاهرة التساقط زعم أنها حدثت في كل التاريخ الإسلامي مرتين فقط.
المرة الأولى في عهد النبوة، والمرة الأخرى في عهد الإخوان المسلمين المرسلين!
التساقط الذي حدث في عهد النبوة في اعتقاده كان أمره هيناً وبسيطاً ويُحتمل. فـ«جل الذي كان يحدث في تلك المرحلة سقوط أشخاص في أخطاء، كان بعضها جسيما من دون شك. وطبيعة العمل في تلك المرحلة والتي جعلت الناس أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما: خيار الإسلام أو خيار الجاهلية، كانت تحول - ولو خوفاً من عقوبة الارتداد - دون الخروج على الصف الإسلامي. أما اليوم، فلاعتبارات كثيرة أهمها أن الحركة الإسلامية لا تعتبر هي جماعة المسلمين، بمعنى أن الخارج عليها خارج من الإسلام مرتد عن الدين، وإنما اعتبرت جماعة من المسلمين ليس إلا. وبالتالي فإن المسلمين خارج إطارها التنظيمي لا يعتبرون مرتدين. وأنهم ما داموا كذلك، فإن الخروج عليها لا يعتبر ارتداداً عن الدين وإنما هو ارتداد عن الجماعة والتنظيم».
في مغالطة منطقية وزمنية ألحق فتحي يكن في تنظيره السالف، الأول والقَبْلي والمتقدم بالآخر والمابعد والمتأخر، فسمى الرسول وصحابته بالصف الإسلامي! وهي التسمية السياسية والفكرية التي لا أظنها كانت تستعمل في وصف الإسلاميين في المنتصف الأول من القرن الماضي، وذلك من أجل مماثلة دعوة الإخوان المسلمين بدعوة النبي محمد ومساواتها بها، وإسباغ صفة النبوة عليها.
قيل عن دعوة الإخوان المسلمين في عهد مؤسسها حسن البنا، إن أصحابها لا يعتبرون أنفسهم جماعة من المسلمين وإنما هم المسلمون حقاً. ولما اختلف معهم أحد دعاتهم وكتّابهم ومنظريهم الشيخ محمد الغزالي أكد هذا الاعتقاد عندهم بالتشنيع عليهم به علناً في أحد كتبه.
إن فتحي يكن متململ وضائق بالاعتبارات التي ذكر لنا أهمها عنده، وهو أن الحركة الإسلامية - والتي يقصر تسميتها بهذا الاسم ويحصرها بدعوة الإخوان المسلمين - أنها لا تعتبر عند المسلمين أنها هي جماعة المسلمين، وإنما تعتبر عندهم جماعة من المسلمين. فلو كان المسلمون يعتقدون بما يحب ويشتهي ويتمنى لعدوا الذين تخلوا عنها - بأي درجة كانت - أو انشقوا عنها، مرتدين دينياً. ولكان هذا الحكم الديني على هؤلاء ردعهم وقذف بقلوبهم الرعب خوفاً من عقوبة القتل. ولكان تساقطهم مجرد سقوط في أخطاء مثلما حدث - كما ذهب إلى ذلك في تنظيره - في العهد النبوي.

إن اعتقاد المسلمين بما يعتقد حرفياً لا يكفي لإنفاذ حكم الردة في الذين يسمِّيهم المتساقطين من الإسلاميين، لكني كنت أشرح نظريته بحدود ما صرح هو به. والمخبوء بين السطور هو أن الحكم أو الحكومة في العالم العربي لو كانت بيد الإخوان المسلمين، لكان يجب عليها إنفاذ حكم الردة بالمتساقطين عن دعوتها، ومنهم أصحاب الجماعات الإسلامية الأخرى، ليقضوا على ظاهرة - يعتبرها هو - ظاهرة مرضية، وهي تلك الظاهرة الموسومة بالتعددية في العمل الإسلامي.
هذه الاعتبارات لم يذكر منها سوى اعتبار واحد، الذي سيسميه في سطور تالية تصوراً، يقول عن هذا الاعتبار أو التصور: «هذا التصور لطبيعة موقع الحركة الإسلامية اليوم من المسلمين يساعد إلى حد كبير على التفلت من صفوفها حيث لا يشعر المتفلت أنه بعمله هذا قد ارتكب معصية وإثما. وقد يجد البعض تشجيعاً ودعماً بل إكباراً وإجلالاً في بعض الأوساط الإسلامية لما فعل. وسبب آخر كان يساعد على سلامة الصف في الماضي. وهو موقف الإنكار من المسلمين لمن يحاول أن يشق صفوفهم أو يبدو منه ما يعتبر مخالفة لقيادتهم أو سياستهم أو جماعتهم».

ليس في هذه السطور مخبوء سياسي، إذ إن ظاهرها كباطنها. فالاعتبار أو التصور الخاطئ عقدياً من وجهة نظره، الذي يجعل من الإخوان المسلمين جماعة المسلمين وليس جماعة من المسلمين، يلقي فيه باللائمة على بعض الأوساط الإسلامية التي يعني بها تيارات واتجاهات إسلامية غير إخوانية، وربما يعني بها أيضاً بعض المؤسسات الإسلامية الرسمية التي لا تحبذ الانتماء السياسي والفكري لغيرها، كالانتماء إلى دعوة الإخوان المسلمين وإلى سواها من الدعوات الإسلامية الأخرى. ويلقي فيه باللائمة أيضاً على المسلمين كافة الذين لم يعتقدوا أن دعوة الإخوان المسلمين هي دعوة الإسلام في العهد النبوي حصراً. بحيث أن من يخالفها أو يخرج عنها أو يخرج عليها، فإنه في الأولى قد خالف الإسلام، وفي الثانية قد خرج عن الإسلام، وفي الثالثة قد خرج على الإسلام!
لست بحاجة إلى مناقشة هذه المماثلة اللاتاريخية في كتاب هذا المنظر الإسلامي الحركي الحزبي الذي أضلت كتبه أجيالاً من الشباب الإسلامي في العالم العربي، لأن المقام ليس مقام مناقشة أفكاره الخطيرة والسطحية في آن، وإنما سأكتفي بالإشارة إلى أن ما فعله في تنظيره هو عينة من عينات كثيرة يفعلها الإسلاميون، يسميها بعض الباحثين إهدار السياق التاريخي.
التساقط الذي في عهد النبوة والذي اعتبره أمراً هيناً وبسيطاً ويُحتمل، هو كما عدّده: المتخلفون عن غزوة تبوك، حاطب بن أبي بلتعة مسجد الضرار، حديث الإفك، حادث أبي لبابة.
الغرض الثاني الذي يصلح فيه استعمال كتاب أبي عبد الإله بن مقبل العصيمي (من أخبار المنتكسين) هو أن يُتخذ من الكتاب مادة للتفكه والتهكم، وأن يرشح لمسابقة عن الكتب الرديئة في العالم العربي التي صدرت في عام 1995، وأنا متأكد أنه سيفوز - بجدارة - بموقع أردأ كتاب صدر في ذلك العام. وللحديث بقية