&عبدالله المدني

«تشكل دراسة التاريخ الاقتصادي (أو دراسة سير رواد الاقتصاد والأعمال) أهمية كبيرة في فهم الجوانب المؤثرة في تحرك المجتمع، ومن يعيشون فيه والدوافع التي تحركهم، إلى جانب الأهمية المترتبة في معرفة الظروف الاقتصادية الماضية والمتمثلة في استنباط أفضل الظروف والقوانين الحياتية التي تحكم نمو المجتمع وتسير به نحو التقدم والتطور». هذا ما كتبه الدكتور صلاح عريبي عباس العبيدي في مقدمة كتابه الموسوم «الدور الاقتصادي للبرجوازيين الوطنيين في المشرق العربي» الصادر في عام 2009 عن دار غيداء للنشر والتوزيع الأردنية.

وإذا كان المؤلف ضرب أمثلة وأتى على نماذج لشخصيات عربية وطنية من أمثال المصري طلعت باشا حرب، والعراقي نوري فتاح باشا، والفلسطيني عبدالحميد شومان، فإن هناك في التاريخ الاقتصادي لدول الخليج العربية من وازاهم وتساوى معهم مقاما ووطنية وإسهاما في بناء اقتصاديات بلدانهم والمساهمة في نهضتها ورخائها، بل إنه في الحالة الخليجية تجاوزت إسهامات هؤلاء حدود أوطانهم لتشمل أوطان الآخرين. ففي المملكة العربية السعودية لا يمكن للباحث إلا أن يقف إجلالا لعصامية وإسهامات شخصيات مثل سليمان صالح العليان وعلي العبدالله التميمي وعبدالله السليمان الحمدان ومحمد سرور الصبان وأحمد حمد القصيبي وعبدالله فؤاد بوبشيت، وعائلات زينل علي رضا وباناجة والشربتلي وباعشن والمطرود والسيهاتي وغيرهم. وينطبق الحال على دولة الإمارات العربية المتحدة التي برزت فيها أسر تجارية وطنية مثل الماجد والغرير والفطيم والحبتور والقلداري والسركال والفهيم والقرق والعويس. وعلى المنوال نفسه نجد في سلطنة عمان أسماء لعبت أدوارا تنموية لا تنكر مثل بهوان والبرواني والزواوي والزبير، وكذا الحال مع البحرين التي يدين اقتصادها المبكر لإسهامات الراحلين عبدالله أحمد ناس وعلي بن يوسف فخرو وعائلات كانو والعجاجي والقصيبي والزامل والزياني. أما في الكويت التي لعبت فيها طبقة التجار الوطنيين دورا مؤثرا في تأسيس هياكلها الاقتصادية والسياسية منذ بدايات القرن العشرين، فنجد قائمة طويلة من الأسماء مثل هلال فجحان المطيري وآل الإبراهيم والغانم والمرزوق والمشاري والشايع والخالد والصقر والجناعي والحميضي والخرافي والشارخ وغيرهم كثير.على أن حديثنا في ما سيأتي يقتصر على رجل من بناة دولة الإمارات العربية المتحدة الأوائل هو معالي محمد سعيد الملا الذي يعتبر صاحب فضل كبير على الكثيرين ممن برزوا بعده في ميادين المال والأعمال، لأنه جُبل على خصلة كريمة تمثلت في الأخذ بيد الصغار ودعمهم ماديا ومعنويا كي يرتقوا بأنفسهم، وبالتالي يخدمون وطنهم. وفي هذا السياق كتب قطب الأعمال الإماراتي الكبير خلف أحمد الحبتور في الصفحات 119 ــ 122 من كتابه «خلف الحبتور، السيرة الذاتية» (دار موتيفت للنشر/‏ الطبعة الأولى 2012) ما مفاده أنه بعد أن تقلب في عدد من الأعمال والمهن برواتب متواضعة ابتدأت بـ250 روبية في الشهر، شاءت الأقدار أن يلتقي بالملا الذي كان -آنذاك- رجل أعمال بارزا في دبي وصديقا لوالده وأخيه الأكبر محمد، وكان الملا وقتها يبحث عن شخص يرعى مصالح شركة البناء التي يملكها في أبوظبي، فعمل لديه. ويضيف الحبتور عن طبيعة عمله قائلا: «شجعني السيد محمد الملا كثيرا، ما عزز ثقتي بنفسي إلى حد كبير، فقد كنت أخرج من منزلي في الرابعة فجرا كل يوم وأقود سيارة لاندروفر إلى أبوظبي، عابرا الطرقات الوعرة الممتلئة بالحفر، وأعود في السادسة مساء تقريبا، متلهفا لمعانقة السرير. كان العمل -بحد ذاته- مرهقا جدا، فقد عملتُ ممثلا لشركة الملا في أبوظبي ولكن مهما كانت صفتي الرسمية في الشركة، كان عليّ مساعدة الآخرين في العمل وتنفيذ كل ما يُطلب مني (مثل قيادة الشاحنات وتفريغ البضائع ونقل العمال ودفع الأموال للمقاولين من الباطن والتأكد من صب الإسمنت في المواعيد المقررة)». وفي مكان آخر كتب الحبتور النص التالي: «كان قرار الانضمام إلى شركة الملا من أفضل القرارات التي اتخذتها في حياتي. ففي السنوات الثلاث التي أمضيتها في الشركة، حصلتُ على التدريب اللازم، واكتسبتُ خبرة جيدة، وازدادت ثقتي بنفسي، وأقمتُ علاقات مهمة، وترفعتُ إلى منصب مدير عام فرع أبوظبي. والأهم من ذلك أنني كونتُ صداقة متينة وارتبطتُ بأفضل شريك أعمال قد يتمناه المرء (..........) أقول وبكل صدق، لو لم يمنحني محمد سعيد الملا الفرصة لأظهر له مؤهلاتي لاتخذتْ حياتي مجرى مختلفا تماما. أدين له بالكثير لأنه وضعني على الطريق الصحيح ودلني على الاتجاه المناسب. كنتُ مجرد فتى يافع حين وضع ثقته فيّ، ليودعني رجلا بعد ثلاث سنوات»، والمعروف أن الحبتور صارح الملا برغبته في ترك العمل لديه بحجة أنه لا يريد أن يكون موظفا طوال حياته ويرغب في تجربة حظه في مجال الأعمال الحرة، فقبل الملا قراره على مضض.

ومن غير المواطنين الذين أتوا على ذكر محمد سعيد الملا كصاحب أفضال عليهم، المحاسب القانوني البنغلاديشي سجاد حيدر الذي قدم إلى الإمارات للمرة الأولى سنة 1973 ورحب به المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي الأسبق للعمل في الإمارات، فعيّنه الملا محاسبا قانونيا ومستشارا له. وفي حديث لحيدر نشرته صحيفة الفجر الإماراتية أخبرنا بأنه ينظر إلى الملا كقدوة ورائد ومعلم له الفضل الأكبر في حياته ونجاحه وبقائه في الإمارات على مدى أربعة عقود، مضيفا أنه لا ينسى مبادرة الملا بمنحه الثقة وتسليمه جداول حسابات شركة الإمارات للاتصالات (اتصالات) في عام 1976 من أجل القيام بالتدقيق القانوني.

ولد محمد سعيد الملا في إمارة دبي يوم كانت الأخيرة بلدا مغمورا ومجتمعا متواضعا قليل السكان والإمكانيات، لكنه عاصر كل تحولاتها التاريخية بدءا من حقبة الحماية البريطانية لمشيخات الساحل المتصالح وما تخلله من فقر وعوز وحرمان وانتهاء برحيل البريطانيين عن المنطقة وإرهاصات قيام الكيان الوحدوي بين الإمارات السبع بقيادة المغفور لهما الشيخين زايد بن سلطان آل نهيان وراشد بن سعيد آل مكتوم في عام 1971. كما كان شاهدا على التحولات الباعثة على الدهشة في مسقط رأسه التي حولت الأخير إلى بلد يعانق السماء ومكانا يجذب أنظار وأفئدة العالم.

بدأ الملا حياته العملية في الاتجار بالذهب مع الهند، على عادة الكثيرين من أبناء الخليج في حقب الثلاثينات والأربعينات والخمسينات، ثم عمل مقاولا في قطاع البناء والإنشاءات من خلال شركة أنشأها في إمارة أبوظبي في منتصف ستينات القرن العشرين؛ أي في بدايات توجه الإمارة نحو إنفاق مداخيلها من النفط على مشاريع الإعمار والتنمية تحت قيادة حاكمها الجديد الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله. وبفضل جهوده وإتقان العاملين معه لجهة تنفيذ المشاريع الموكلة إليهم بدقة وجودة عالية ذاع صيته وتحسنت أحواله المادية وصار مقربا من علية القوم بدليل إسناد مهمة بناء أول قصر للشيخ زايد في مدينة العين إلى شركته.

أما في دبي، وتحديدا في عام 1963، فقد كان له دور في تأسيس أول مصرف وطني بالمشاركة مع عدد من تجار الإمارة البارزين آنذاك، فظهر بنك دبي الوطني الذي لم يكن قد سبقه لجهة العمل المصرفي في دبي سوى فرع للبنك البريطاني كان قد بدأ نشاطه في عام 1946. وعن ظروف تأسيس هذا الكيان المصرفي قال ناصر بن عبداللطيف السركال (طبقا لما كتبه الدكتور محمد فارس الفارس في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 30/‏10/‏2014): «في عام 1963 زارني علي بن عبدالله العويس بصحبة محمد سعيد الملا، وأخبراني أنهما قررا إنشاء بنك وطني في دبي برأسمال قدره مليون جنيه استرليني؛ أي ما يساوي 14 مليونا و500 ألف روبية، وطلبا مني الانضمام إليهما والمساهمة في المشروع، وكذلك السعي لإقناع التجار المحليين للمساهمة فيه، وتمكنت من إقناع عدد من التجار المعروفين للمساهمة معنا، وبذلك تأسس بنك دبي الوطني المحدود بمرسوم من الشيخ راشد بن سعيد حاكم دبي، وعين مجلس الإدارة برئاسة علي عبدالله العويس وعضوية ناصر بن عبداللطيف السركال ومحمد سعيد الملا ومحمد مهدي التاجر ويوسف حبيب الحبيب ومير هاشم خوري وسلطان علي العويس. وانتخب ناصر بن عبداللطيف نائبا للرئيس، وتم تعيين السيد ماك البريطاني الجنسية مديرا عاما للبنك....».

وفي عام 1965 اختير الملا ليكون أول رئيس لمجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة دبي التي تأسست في تلك السنة من أجل لعب دور حيوي في تحسين مناخ الأعمال ودعم وحماية مصالح مجتمع الأعمال في الإمارة. ويعتبر الملا أيضا من مؤسسي «بريد دبي» الذي قام بإصدار أول مجموعة طوابع بريدية باسم الإمارات المتصالحة في يناير 1961، علما بأن أول وكالة بريدية في دبي افتتحت في أغسطس 1909 كوكالة تابعة للبريد الهندي وتدار من قبله، قبل أن يؤول الإشراف عليه أولا إلى البريد الباكستاني في أكتوبر 1947 ومن ثمّ إلى بريطانيا في سنة 1948 بعد استقلال الهند البريطانية في تلك السنة. ومن ناحية أخرى يعتبر الملا من مؤسسي شركة الإمارات للاتصالات (اتصالات) التي أنشئت في 30 أغسطس 1976 وكان أول رئيس لمجلس إدارتها.

بعيد توحيد الإمارات السبع وإعلان قيام دولة الإمارات العربية المتحدة كان الملا على موعد مع مسؤولية أكبر. ففي أول تشكيل وزاري في الدولة الفتية برئاسة المغفور له الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم عهد إليه بحقيبة وزارة الدولة لشؤون الاتحاد والخليج وحقيبة الكهرباء بالوكالة. أما في التشكيل الوزاري الثاني في عام 1973 وكان أيضا برئاسة الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم، فقد أسندت إليه حقيبة المواصلات (ربما بسبب ما راكمه الرجل من خبرات في مجال البريد والاتصالات). وحينما أعاد الشيخ مكتوم تشكيل الحكومة الاتحادية للمرة الثالثة في عام 1977 أبقى على الملا وزيرا للمواصلات، وكذا فعل الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم -رحمه الله- في عام 1979 حينما ترأس الحكومة الاتحادية الرابعة. واحتفظ الملا بالحقيبة الوزارية ذاتها في التشكيل الخامس سنة 1990 برئاسة الشيخ مكتوم، لكنه فقدها لصالح معالي أحمد حميد الطائر في التشكيل الوزاري السادس سنة 1997. وهكذا نجد أن الملا ظل حاملا لمسؤوليات حقيبة المواصلات في بلده من عام 1973 إلى عام 1997 كما ظل رئيسا لمجلس إدارة مواصلات الإمارات من عام 1981 حتى 1997.

في الثاني من مايو سنة 1975 أصدر المغفور له الشيخ زايد؛ بصفته رئيسا لدولة الإمارات العربية المتحدة، القرار رقم 2 لسنة 1975 القاضي بتشكيل لجنة تأسيسية لإعداد مشروع الدستور الدائم للدولة. وجاءت في المادة الأولى من القرار أسماء أعضاء اللجنة التأسيسية وكانوا 28 شخصية من شخصيات البلاد ذات المكانة الرفيعة والكفاءة المشهودة والتاريخ الوطني الناصع. وقد كان اسم محمد سعيد الملا بين تلك الأسماء، بل جاء ترتيبه الثالث بعد الشيخ سرور بن محمد آل نهيان ومعالي أحمد خليفة السويدي.

وهكذا ساهم الملا، ليس فقط في مجال الخدمات التي احتاجتها بلاده في سنواتها المبكرة، وإنما شارك أيضا في صياغة تشريعاتها من خلال إعداد دستور يليق بها وبطموحاتها بالاشتراك مع آخرين من مواطنيه من أمثال: ثاني بن عيسى بن حارب، راشد بن حميد بن سلطان، حموده بن علي، علي محمد الشرفا، محمد مهدي التاجر، عبدالعزيز حميد القاسمي، عبدالرحمن سعيد غانم، خلفان الرومي، راشد عبدالله النعيمي، محمد سعيد الغيث، سعيد جمعة النابوده، خالد بن خالد خادم، أحمد إبراهيم الغروبتي، عيسى علي المزروعي، سالم إبراهيم درويش، راشد عبدالله طه، محمد إبراهيم عبدالله، عبدالله أمين، خليفة بن سيف خليفة المهيري، سعيد محمد الرقباني، عبدالله سلطان السلامي، سليمان موسى جاسم، محمد سيف عبدالله، عتيق عبدالرحمن عتيق، عبدالله جمعة بوهارون.

قرر الملا في عام 1978 أن يتفرغ لأعماله الخاصة بمشاركة أبنائه، فصدر في الأول من فبراير 1978 مرسوم يحمل توقيع الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي -رحمه الله- بالموافقة على تأسيس شركة مساهمة محدودة المسؤولية تحت اسم «شركة محمد سعيد الملا وأولاده الخصوصية المحدودة» برأسمال مصرح به مقداره 500 مليون درهم، مقسمة إلى 500 ألف سهم قيمة كل منها ألف درهم. وقد بين المرسوم الأغراض الرئيسية للشركة وهي «القيام بتملك الحصص والأسهم في الشركات الأخرى والاشتغال بأي تجارة أو أعمال أخرى مهما كان نوعها».

وفي السنوات التالية راح هذا الكيان التجاري ينمو ويتوسع وينوع مجالات استثماراته وأعماله تحت إدارة مؤسسه الملا وأولاده الذين تخرجوا من أرقى الجامعات الأمريكية في تخصصات الهندسة وإدارة الأعمال وغيرها واكتسبوا الخبرات العملية من العمل في القطاعين العام والخاص، حتى تحول ذلك الكيان إلى «مجموعة الملا القابضة» التي تعمل الآن في قطاعات الفندقة والضيافة والسفر والسياحة والعقارات والترفيه والأغذية والسلع الفاخرة وخلافها من القطاعات التي باتت تستجيب لمستلزمات النهضة التي تعيشها دبي اليوم.

&