فـــؤاد مطـــر

ليس أمراً جديداً على لبنان إذا هو انتفض. ففي تاريخه التليد قبل الاستقلال في أزمان عثمانية وفرنسية، وبعد الاستقلال في أكثر من ولاية رئاسية، انتفاضات لكل منها دواعيها وهتافاتها ومطالب المشاركين فيها. وليس مستغرباً هذا المشهد الاحتجاجي المبهر منذ أيام في عدة مدن لبنانية، وبالذات بيروت عاصمة اللبنانيين، وكذلك العاصمة الثانية للعرب من دون استثناء، كونها التي طالما احتاج عرب كثيرون إلى التنفس من خلالها، كما احتاج انقلابيون وثوريون إلى الارتماء في رحابها.
ولقد اعتاد العرب على اللبنانيين أن يبتكروا في المناسبات مسيرات ومظاهرات يقومون بها لنصرة الأشقاء العرب، عندما تلم بهذا الشقيق أو ذاك محنة وطنية. وفي الذاكرة مسيرات من أجل ثورة الجزائر، ومسيرات من أجل نصرة مقاومة مصر للعدوان الثلاثي عام 1956. ودائماً تكون المسيرات لمصلحة هذه القضية أو ذاك الشعب المعتدى عليه في دولة شقيقة. كما في الذاكرة مبادرات، كتلك التي كانت تتكرر في بيروت زمن استضافة المقاومة الفلسطينية، وكيف أنه عندما يتم الإعلان عن تشييع شهيد فلسطيني، ويمر موكب الجنازة في شارع مشترَك مسلم – مسيحي، فإن تكبيراً يصدر عبر مكبرات الصوت في المسجد، وأجراس كنيسة تعبِّر بدقاتها عن المشاركة في الحزن، وهذا يحدث تلقائياً ومن دون أن تطلب سلطة رسمية ذلك.

ما يراد قوله إن المسيرات والمظاهرات التي طالما شهدتها بيروت أم الشرائع (ماضياً) أسبغت عليها صفة جديدة، هي «أم النجدات المعنوية» لبعض الأشقاء العرب، عندما تلم بهم نائبة، وتكون تلك النجدات صوتاً بقوة الدوي، طالما أفاد مقاومة ثوار الجزائر للاستعمار الفرنسي، ومقاومة عبد الناصر للعدوان الإسرائيلي - الفرنسي – البريطاني، وتصدي ياسر عرفات كي تبقى القضية الفلسطينية حاضرة في البال.
هذه المرة بالذات، ونتيجة لإحساس اللبنانيين بأن عليهم أن ينظروا في أمرهم بعدما بات الوطن ملعبَ أمزجة غرباء ومشروعاتهم، وبات أمر انتهاك الأصول والثوابت والتوريث والاكتناز والارتهان حالة تهدد الخصوصية اللبنانية، جاءت الانتفاضة التي لا بد منها، تعبيراً عما في النفوس من خيبة أمل من الممسكين بمقاليد الأمور. وجاءت تخلو من أي شوائب. وطنية بامتياز. عفوية لا يصغي المشاركون فيها لغير أصوات أوجاع ناشئة عن عسر الأوضاع المعيشية، والاحتياجات المجتمعية المستشرية. واستطاعت بعد أسبوع من الصمود والثبات على الحس الوطني، أن تكون هي لبنان المعارض مقابل لبنان الحاكم. واستطاعت انتزاع بعض ما تتمنى على أهل الحُكم تقديمه.
ثمة أمثولات كثيرة أفرزتها الانتفاضة، وهذه يمكن اعتبارها مكاسب. الأمثولة الأهم استعادة الإيمان بلبنان وطناً وليس ساحة، وعَلَمه يرفرف ويعلو على سائر الأعلام. أما أبرز بقية الأمثولات فهي:
التأكيد على المقولة الحريرية أباً، بأن لا أحد أهم من الوطن، وبالتالي فإن بعض الحالمين والساعين إلى تثبيت أن أهميتهم وما يمثِّلون تتقدم على لبنان الوطن والخصوصية اللبنانية، سيعيدون النظر في تطلعاتهم تلك.
مع أن للسلاح قوته في فرض الأمر الواقع أحياناً، فإن الانتفاضة بثباتها وشموليتها أكدت أن الأصوات الاحتجاجية التي انطلقت من حناجر الموجوعين في الساحات، هي بقوة ذلك السلاح، لجهة أنه لا بد من إعادة النظر في أمور كثيرة، وفي معادلة تحتاج إلى تدوير في المضامين.

بعد الانتفاضة المتعددة الأجنحة شمالاً وجنوباً وجبلاً وسهلاً، بات على الذين طالما كانوا يمارسون سياسة فرض تعظيم الذات والأمر الواقع والإلغاء، التواضع كثيراً، عملاً بقول الإمام علي (رضي الله عنه): «ضع فخرك، واحطُط كِبرك، واذكر قبرك، فإن عليه ممرك».
لقد عطَّلت لغة الكلام علاقة لبنان بالأشقاء، وهذا إثم ما بعده إثم ارتكبه المرتكبون. وبعد الانتفاضة لن تكون هنالك أصوات تعلو على صوت مصلحة الوطن، في أن يكون عند حُسْن ظن الغير به والتعامل معه، بما يحقق استقراره وطمأنينة شعبه.
فيما مضى، كانت المساندات الخليجية والدولية توضع في حسابات الدولة، ومن دون أي رقابة على الإنفاق، ثم يتبين أن الذين شغلوا مناصب متقدمة في الدولة والحكومة والإدارة، تعاملوا مع هذه المساعدات وكأنما هم شركاء للدولة فيها، وبذلك اغتنى هؤلاء ولم تصلح حال الناس، وتعثرت الميزانية. وعندما تستأنف الدول الداعمة، وبالذات دول النخوة الخليجية، دعماتها، فإن رقابة مشددة على النجدات المالية ستقي لبنان الدولة والشعب من مخاطر إنضاب البعض لهذه الخيرات.
موضوع محاسبة الذين تَمَلْيَروا في غفلة من الزمن، كان القضية الأساسية في الانتفاضة، وليس هنالك أي حديث حول موضوع سياسي أو عن الصراع العربي – الإسرائيلي والقضية الفلسطينية؛ لكنه حديث من دون تسميات، الأمر الذي أفقد الدعوة إلى المحاسبة أي قرائن، باستثناء معلومات متداولة على وسائل التواصل، وهذه عموماً ليست وثائق.

بعد الآن ستنحسر مظاهر الأبهة والحفلات التي يقيمها بعض المكتنزين، وكذلك بعض ذوي الشأن الوظيفي في الدولة، وتتسم بالبذخ والظهور بمظهر الأغنياء توريثاً أو أغنياء الأزمات وعوائد الصراع على لبنان. ومثل هذا الانحسار ما كان ليحدُث (احتمالاً) لولا الانتفاضة.

بعد اختراق نوعي في مناطق مصنفة ولائياً لـ«حزب الله» و«حركة أمل»، أظن أن الحركتين ستعيدان إعادة تقييم للموقف من جانب زعامة كل منهما.
في تغييب (احتجاباً وإضعافاً) للصحافة اللبنانية التي كانت مرآة مسيرات ومظاهرات وانتفاضات الزمن الذي مضى، حلت ثلاث فضائيات لبنانية محل تلك الصحف، وكان لها دور فاعل في إنجاح الانتفاضة التي اتسمت برقي لا مثيل له، قياساً بالانتفاضة الفرنسية. بل إن هذه الفضائيات أجرت ما يشبه الاستفتاء، وعلى الهواء، ولا يحتاج إلى تدقيق في النتائج، كما استفتاءات بعض الرئاسات العربية المحدَّدة نتاجها بمجرد البدء فيها.
ويبقى أن نجاح سيدة الانتفاضات بعد شقيقاتها المصرية والتونسية والسورية والسودانية والعراقية بعد الفلسطينية، هو في متابعة متأنية وضاغطة لمشروع الإصلاحات التي عرضها على الهواء رئيس الحكومة سعد الدين رفيق الحريري، على أمل إتباعها بتعديل حكومي جذري، يعزز مبدأ سياسة النأي بالنفس، ثم بحكومة تكنوقراط يتقاسمها - كما حصل في السودان - مدنيون وعسكريون، باعتبار أن العسكري تكنوقراطي بطبيعة عمله، وتقاليد المؤسسة العسكرية أساسها الانضباط. وبعد ذلك يتحقق ما يصبو إليه اللبنانيون، وهو انتخابات جديدة يكون الاختيار فيها لمن يريد خيراً للبلاد وطمأنينة للعباد. وبذلك تكون انتفاضة بيروت وأخواتها في سائر المناطق، هي سيدة انتفاضات الزمن العربي الراهن.