&تركي الدخيل&


على أرض بلاد مسروح، في منطقة المدينة النبوية، وبمضارب قبيلة حربٍ وديارها، ولد أستاذ الأدب، السعودي، الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك، في 1950.
نهل من أرضه، سعة أفقٍ لا يخطئها متابعه، وفصاحة لسانٍ تعضدها سهولة بيان، يرافق ذلك، قوةُ برهان.
تعلم من لظى حرات المدينة المنورة، المجالدة والصبر، ومن ثقافتها، التأمل والترحال، ومن براءة أهلها، المباشرة والوضوح.

آنست ذاكرته، دروس الشريعة، التي حضرها في سنوات الصبا، في باحات المسجد النبوي الشريف، لعلماء أجلاء يعز مثيلهم، مثل: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، (1905-1974)، الموريتاني مولداً، فالسعودي جنسية ووفاة، وهو مؤسس علمي الأصول والتفسير في السعودية. والشيخ عبدالقادر شيبة الحمد، (1921-2019)، المصري مولداً، فالسعودي جنسية ووفاةً، والشيخ أبوبكر الجزائري، (1921-2018)، الجزائري مولداً والسعودي وفاةً، والشيخ عطية محمد سالم، (1927-1999)، المصري مولداً والسعودي وفاةً.
أما سلوم قبيلة حرب، وعاداتها، فقد تلقاها، عن الآباء والأجداد، وشيوخ القبيلة. حصل الدكتور مرزوق بن تنباك، على البكالوريوس من جامعة الملك سعود، قبل انتقاله إلى إسكتلندا ليحصل على الماجستير، والدكتوراه من جامعة أدنبره.
يصفه صديقه الأستاذ عاصم حمدان، بنصٍ مفعم بالنبل، فيقول: «إنه يحمل في داخله قلْباً ناصعاً، تجلس إليه فيبتسمُ، في وجْهك ابتسامة الصّفاء، ويُحدِّثُك حديث الصِدْق، ثم يخاطبك بلغته البسيطة، والعفوية، مُتوسِّلاً إليك، في أدبٍ جمٍ، بأنْ ترافقه إلى منزله، وتَجِد نَفسَك مُنْجذباً لشخصية لم تتنكّر لماضيها، ولم تتنصَّل من عراقَتِها، ولم تبُهِرُها تلك المظاهر الكاذبة، من حضارة الغرْب، مع الانفتاح الواعي، الذي تنمو معه، وبه شخصية الأكاديميِّ، الذي قال عن الوطن، في كتابه الرَّصين، والمتميّز، (رسائلٌ إلى الوطن)، «كان أمام المُصْلحين من أبنائكَ، خياران، لا ثالث لهما، إمَّا أن تبقى ذلولاً، لتحقيق مصلحة لفئة محدودة الساحة، وميداناً للقبيلة والعشيرة والقرية والإقْليم، وأنْ تتعدَّدَ لك الولاءاتُ، بتعدُّدِ المصالح الضَيِّقَةِ، أو أنْ تجمع الولاءات والأطراف، وتتحدَّد الأغراضُ والأهواءُ، وتصهرها في بوتقة الوطن، الذي يصنعُ الأمَّة ويجمع الشَّمْل، وأنْ يكون الولاء له - وحده - وأن تذاب النَّعْرة للقبيلة، والحميَّة للقرية، والانتماء للإقليم، وتُصَبُّ في كيان الأمة، وحسْبُك ذلك».
علاوةً على الأدب الرفيعِ، والحكمةِ السامقة، في شخصية الدكتور وأحاديثه وأطروحاته، فإنه صديق السؤال، وحين دوّخهُ إشكال «الوأد عند العرب»، طرح بحثاً مهماً مداره على نفي فكرة وأد العرب بناتهم، وتمنى على مخالفيه أن يُضيفوا على ما توصل إليه، أو أن ينقضوا بالأدلة ما توصل إليه.

«احذروا من يقاتل الدنيا بسلاح الآخرة»، مقولة علّقها الدكتور مرزوق، على حسابه في (تويتر)، والحقُّ أن الحكمة تنساب مطواعةً حيّةً سهلةً، من رجلٍ، جمع حكمة البداوة بالمعرفة الأكاديمية. ولنقف عند بعض جواهر طرحه، في الدين والدنيا، إذ يقول: «الإسلام مظلة واسعة، وقبة عالية الشرفات، كل يستطيع أن يجد في رحابتها، مكانا يستريح فيه مطمئناً، لا تزعجه الأحداث، ولا تنتابه الوساوس، وهذا روح الدين، واطمئنان أتباعه إلى نهجه، وعدالته وعروته الوثقى، حيث لا يُفرق جماعة المسلمين، ولا يميز بينهم، تتسع دائرته للمؤمنين بثوابته العليا، وقيمه الرفيعة».

وحول التراث وما يمكن الاستفادة منه، يضرب مثلاً بتجربة إقليم (غلاروس)، وبأهله الذين قاموا بمراجعة تراثهم، فلا يمكن نفي التراث كله، ولا الانصياع لمقولاتٍ قد لا تكون مناسبةً لزماننا، وقاعدة ابن تنباك، تتخلص بقوله: «كل ثقافات العالم، فيها شيء يمكن محاكمته، وتركه، ويمكن تجاوزه، والاعتذار منه، وفيها شيء يمكن نشره، وذكره، والاحتفاظ به، وتجديده، والمهم أن يعرف كل أهل ثقافة وحضارة، ما هو الذي يُطمر ويُعتذر منه، وما هو الذي يُنشر ويُفتخر به».
الرحلة التي قطعها الدكتور مرزوق طويلة. ستة عقودٍ من العطاء الفكري، والكتابة التنويرية، والفتوحات البحثية، انطلاقتها من المدينة المنورة، وفي إسكتلندا تنفس أستاذ الأدب بعمق، ثم عاد إلى وطنه، واختار طوال حياته النقاش الهادئ، لا الصدام العنيف.
لكَأَنَهُ يستذكرُ حديث صديقه، عاصم حمدان، عن ذكريات ركضات إسكتلندا الأولى وهو يتحدث عن نفسه: «هذا (برنسيس ستريت ما شارع الأميرة) - وهذه قلْعَة الملكة، وتلك البحيرات الجميلة التي عرفت بها ضواحي جلاسكو، وأباردين، وأدنبرة، وكان ينصت لهذا الحديث وغيره من زميل كريم سبقه إلى الدراسة العليا في ذلك الجزء من الجزيرة البريطانية، والذي يحتفظ أهله بلهجتهم الخاصة ولكنه تعجب بعد ذلك كيف أن ((أبناء اسكتلندا)) الذين يداعبون بعضهم البعض بعبارة عامية مثل ((كمرا - هاو)) - ((كيف الحال))؟ قبل أن يأخذوا مقاعدهم في مجلس العموم، ثم إذا أذن لهم المتحدث باسم المجلس بأن يأخذوا - حظهم أو فرصتهم - للنقاش فيما ينفع الأمة الواحدة، فإذا بهم الأكثر فصاحة في لغة تشوسر، وشكسبير، وديكنز». هذا منحى بسيط، من رحلة مرزوق الشاسعة، ومن إنسانيةٍ طبعت إنتاجه المعرفي، وهذا لطف طبعه، لا تطبّعه، وحُسن معشره، وطيبةُ جذوره وثماره، أطال الله عمره.&