& علي العميم

&

إذا كان الأديب السعودي محمد حسين زيدان اتهم المنجد قديماً بأنه في دراسته عن القصيمي كاتب مأجور، ثم اعتذر منه لاتهامه له بهذا الاتهام الشائن، فإن صحافياً وباحثاً سعودياً من جيل متأخر جدد هذا الاتهام وتوسع في إطلاقه عليه.
ففي عرضه الموسع لكتاب إبراهيم عبد الرحمن (خمسون عاماً مع عبد الله القصيمي) المنشور في مجلة (جدلية) – وهي مجلة إلكترونية تصدر باللغتين العربية والإنـجليزية – قال أحمد الواصل: «روج الكاتب المأجور صالح الدين المنجّد – أحد أفضل محققي المخطوطات التراثية العربية – معلومة غير صحيحة ادعى أنه استقاها من أحد الرواة عن أصل من خارج نـجد لأسرة القصيمي، وضعها في كتيب مدفوع الثمن سلفاً» (دراسة عن القصيمي)».
وفي حقيقة الأمر أن صلاح الدين المنجد كان كاتباً مأجوراً – فقط – في تلك الدراسة، وإن اعتذر محمد حسين زيدان منه لأنه وجه له هذه التهمة قديماً. ووصفه بالكاتب المأجور بإطلاق فيه ظلم للرجل وتجنٍ على تاريخه الوضيء الزاخر بالإنـجازات الجليلة والمنجزات العظيمة. وأرى أن تلك الدراسة ليست بالضرورة مدفوعة الثمن سلفاً، وإنما هو كتبها تقرباً من كبير كارهي القصيمي في السعودية واسترضاء له. وبعد إنجاز المنجّد لتلك الدراسة نشأت بينهما صداقة متينة، وكان المنجّد من أهل مودة هذا الكبير إلى ساعة وفاته، في منتصف سبعينات القرن الماضي.
والمنجّد عالم علّامة موسوعي. وهو من كبار المحققين، صنعة وعلماً. يقول عنه المحقق الكبير محمود محمد الطناحي – بعد أن تحدث عن عالمين كبيرين من علماء المخطوطات، هما: فؤاد سيد عمارة ومحمد رشاد عبد المطلب - : «ثم عرفت من علماء المخطوطات غير هذين الكثير، من أمثال صلاح الدين المنجّد، وهو سوري تولى إدارة معهد المخطوطات بالقاهرة سنوات، كانت من أزهى سنوات ذلك العهد، وكان من أنشط من تولوا إدارة المعهد وألمعهم، وهو الذي حرك المعهد في أنشطته المختلفة، من تصوير ونشر وفهرسة، وكان أول رئيس تحرير لمجلة المعهد». قال عنه هذا في مقاله (المتنبي... وعلم المخطوطات) المنشور في مجلة (العربي) عام 1995.
ويقول عنه في كتابه (مدخل إلى نشر التراث العربي): «لم أعرف هذا الرجل ولم ألتقِ به إلى الآن، فقد التحقت بمعهد المخطوطات بعد تركه له، لكني في خلال عملي بالمعهد الذي استمر خمسة عشر عاماً، كنت أحس بصماته ولمساته في جميع أرجاء المعهد، فهذه شهادة أؤديها على وجهها».
ويقول وديع فلسطين في مقاله (صلاح الدين المنجّد في مصر): «والدكتور المنجد هو بحق المؤسس الأول لمعهد المخطوطات، كما قال لي المرحوم رشاد عبد المطلب الذي صاحب المعهد منذ إنشائه. وهو قد أكد لي أن المنجّد هو الحجة الأولى في شؤون المخطوطات، وهو العمدة الراسخ القدم فيما يتعلق بها».

ويعدد عبد الستار الحلوجي في دراسة له عنوانها (إسهامات صلاح الدين المنجد في تأصيل علوم المخطوط العربي) – هذه الدراسة ومقال وديع فلسطين منشوران في كتاب تكريمي عنوانه (مقالات ودراسات مهداة إلى

الدكتور صلاح الدين المنجّد) أصدرته مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي – جهوده البارزة في خدمة التراث العربي، ويذكر منها إصداره أول مجلة علمية عربية تعنى بشؤون المخطوطات والتعريف بها وبأماكن وجودها ورصد ما نشر عنها، واهتمامه بإيفاد بعثات من معهد المخطوطات لتصوير أهم المخطوطات العربي في مكتبات العالم. ويقول عنه: «فقد طوف بالآفاق خلال فترة إدارته للمعهد، واكتسب خبرة هائلة بمظان المخطوطات العربية والإسلامية، وساعده حس مرهف دقيق، وثقافة واسعة على اكتشاف نوادر المخطوطات والتنويه بها».
ويعلمنا الحلوجي أن دراسة المنجّد (قواعد تحقيق المخطوطات) «كانت أساساً اعتمد عليه كل من تصدى لتحقيق نص من نصوص التراث أيّاً كان موضوعه، وكانت نواة لكل المؤلفات التي صدرت بعد ذلك عن تحقيق التراث... ورغم كثرة ما ألف في الموضوع وضخامة بعض المؤلفات، إلا أن كتابي عبد السلام هارون (تحقيق النصوص ونشرها) وصلاح الدين المنجد ظلا دستور المحققين، والمصدرين الأساسين لكل من يحاول تحقيق أي نص من نصوص التراث العربي، بغض النظر عما ثار بين الرجلين من خلاف وصل إلى حد الصدام».

إن دراسة المنجّد عن القصيمي تنبو وتشذ عن كل ما كتبه. وكانت سقطة من كبير في علمه وخلقه. لكن هذه السقطة الوحيدة لا تجعلنا نشطُّ ونشتط فنعرفه بالكاتب المأجور، وبأحد أفشل محققي المخطوطات العربية. والذي جعل أحمد الواصل يسيء على هذا النحو الجائر، هو غلوه في حبه وإعجابه بالقصيمي إلى حد التوثين. فهو لا يحتمل أي نقد له حتى لو كان هذا النقد – بخلاف نقد المنجد – وجيهاً وموضوعياً، ويضيق به جداً.
لحسين مروة دراسة ضافية عن كتاب القصيمي: (العالم ليس عقلاً) عنوانها (مع عبد الله القصيمي في العالم ليس عقلاً) ألقاها – كما يذكر إبراهيم عبد الرحمن – «في ندوة عقدتها لهذا الغرض جمعية أصدقاء الكتاب في ناديها ببيروت بتاريخ 28-4-1965. وضمنها كتابه الذي صدر في العام نفسه بعنوان (دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي)، ووقعت في 41 صفحة من الكتاب».
يأتي أحمد الواصل بمقتطف من تلك الدراسة كان آخر ما ورد فيه قول مروة: «... وأن في كتاب (العالم ليس عقلاً) قدرا من الآراء والأفكار الصائبة العميقة الغور، الرائعة الإخراج، الناهضة على أساس سليم. ولكن أعوزها نبض الحياة، لأنها أفكار مجردة لم تتفاعل مع الحياة لكي تتحول إلى طريقة التفكير، فبقيت أفكاراً مجردة، كل واحد منها وحدة مستقلة، منعزل بعضها عن بعض، ومن هنا المأساة»، فيعلق أحمد على قوله هذا مستهزئاً: «إن المأساة بأنه لم يبق من مروّة نفسه إلا تلك الجملة الذائعة بأنه الشيعي الذي كان يقرأ ماركس في النجف!».

انتقص أحمد من حسين مروة وانتقص من ماركسيته بهذه الطريقة الهازئة، ولم يناقش نقده لكتاب القصيمي، لأنه يرفضه بدعوى غير صحيحة، وهي: أن القصيمي يستصعب على التصنيف الآيديولوجي والفكري!
ويرفض نقد رئيف خوري لكتاب القصيمي: (كبرياء التاريخ في مأزق) الذي نشره في مجلة (الآداب) عام 1966. تحت عنوان (كبرياء التاريخ في مأزق أو الفكر في السرداب المغلق)، يرفضه بدعوى غير صحيحة أيضاً، وهي: أن الاتجاه الاشتراكي العلمي عاداه مع دفع للقطيعة معه، لأنه لم يجارِ أنظمتهم ومفاهيم ما يفهمون وما يردون وما يرون ولا يراه.
وهذا كلام مرسل. فالاتجاه الاشتراكي العلمي في لبنان في الستينات تحفظ واختلف ونقد جوانب في فكره، وأعجب واتفق وأثنى على جوانب أخرى فيها، ولم يعاده ويعادي فكره كلياً، ولم يدع إلى القطيعة معه. ومما ينقض دعوى معاداة الاتجاه الاشتراكي العلمي له ولفكره، قول حسين مروة في مفتتح دراسته عن كتاب (العالم ليس عقلاً): «قراءة هذا الكتاب قراءة درس ونقد معاً، قد علمني من جديد، كيف تكون المعاناة الشاقة المرهفة المثيرة، في حوار الفكر مع الفكر، شيئا حميماً ممتعاً، أولاً... وشيئاً من ممارسة النهج الموضوعي المحبب إلى نفسي ثانياً. لقد أتعبني هذا الكتاب حقاً... ولكنه أمتعني وعلمني، وروضني». وقوله في خاتمتها: «إن كتاب (العالم ليس عقلاً) ينبوع طاقات ومواهب فكرية وفنية هائلة. قادرة على التوليد والإبداع بزخم متدافع...».

ويرفض أحمد الواصل توصيف رئيف خوري اتجاه القصيمي بالفوضوية الفكرية، رغم أن القصيمي لا يرفض هذا التوصيف، بل يفخر به. فأحمد يعتبرها مجرد تهمة مبعثها أن الفوضوية – أو بحسب ما عبَّر–: «الفوضوية الفكرية تناقض الالتزامية الآيديولوجية في زمن الزعيق الآيديولوجي الذي جابهه القصيمي بجسارة منذ أول مقاله (لا تشتموا الأعداء) كتبها في عام 1956».
وإحقاقاً للحق أقول: إن رئيف خوري وحسين مروة لم يكونا في أي مقالة أو دراسة كتباها من ذوي الزعيق الآيديولوجي في خطابهما الماركسي. وعلى العكس من ذلك، فالقصيمي هو الذي كان زاعقاً بآيديولوجيته العدمية والعبثية والفوضوية وزاعقاً بآيديولوجيته الإلحادية المستفزة والتي كان ينتشي بها بعض الماركسيين العرب. فإلحاده المستفز كان أحد وجوه إعجاب هذا البعض من الماركسيين العرب به وبفكره، فهو يجاهر بما يتحاشون المجاهرة به. وأقول: إن أقوى نقد آيديولوجي ونقد منهجي وجهه العلمانيون العرب في الستينات لفكر القصيمي، هو نقد هذين الماركسيين اللبنانيين: حسين ورئيف.
ويرد أحمد على جزء مما قاله جورج طرابيشي في نقده وتحليله الفرويدي لفكر القصيمي في كتابه (المثقفون العرب والتراث: التحليلي النفسي لعصاب جماعي) الصادر في عام 1991. بأن طرابيشي «يستخدم أدوات التحليل النفسي الفرويدي التي تستخدمه لمصلحتها في تحليل موقف القصيمي من تحليل الخطاب العربي بوصفه ظاهرة كلامية في كتاب (العرب ظاهرة صوتية)، ويتخذه طرابيشي نموذجاً نفسياً بوصفه ممثلاً لكراهية الأب الذي يعادل التراث، حين يطالب القصيمي بنفيه نفياً شاملاً، وهو ما لا قصده ولا ذكره القصيمي، ولكن مبدأ الاعتساف الظني إحدى طرائق التفكير الطرابيشي، وذلك لجهوزية العدة النقدية واعتساف النموذج محل التطبيق».

وبمعزل عن أدوات التحليل النفسي الفرويدي التي لا أفقهها، ولا أفقه – أيضاً – أدوات التحليل النفسي غير الفرويدي، فإن ما قاله طرابيشي عن كراهية القصيمي بـ«أنها كراهية نفيية شاملة لكل التراث، تتنكر له بتمامه وتتوتر بالرغبة السلبية في تدميره برمته بدون أن تستبقي منه شيئا»، هو قول صحيح وكتاب القصيمي الهجائي (العرب ظاهرة صوتية) ينز بما ذكره طرابيشي.
وصحيح أيضاً ما قاله القصيمي في أحد الهوامش من أن الكراهية الأبوية عند القصيمي «تقترن بنزعة إلحادية سافرة واستفزازية لا نقع على مثيل لها في كل الخطاب العربي المعاصر، ولا حتى في كل الفكر العربي، قديمه وحديثه، ولا نجد ما يضارعها إلا في الآداب الأجنبية، وعلى سبيل المثال لدى المركيز دي ساد. ولكن هذه النزعة الإلحادية، المتعمدة تدنيس المقدسات، لا تصدر عن نظر عقلي بقدر ما يحكمها موقف نفسي وبقدر ما تعكس تثبيتاً وجدانياً سلبياً». وللحديث بقية.