رؤوف قبيسي

غالباً ما تكون السيرة الذاتية موضوعاً واحدَ، هو نهج صاحبها في العمل وفي الحياة، فهي إن كانت لسياسي كان موضوعها سياسياَ، وإن كانت لأديب كان موضوعها أدبياَ. هكذا كانت "أيام" طه حسين، و"سبعون" ميخائيل نعميمة، و"قبل أن أنسى" لأنيس فريحة، وقد يتفق أحياناً أن تكون السيرة موضوعين: سياسي وأكاديمي، كما في "خارج المكان" للراحل إداور سعيد.

"سلاسل الذاكرة وتلاوينها" كتاب طبع قبل سنوات ست، أهداني إياه مؤلفه الخبير الاقتصادي مروان اسكندر. وجدت في الكتاب مادة تصلح لكل زمن، ويمكن الرجوع إليها في أي زمن، لأنها سيرة متنوعة لقراء متنوعين، فصاحبها صحافي وكاتب، وخبير اقتصادي، ورجل أعمال، ورجل علاقات عامة، وهو في أحد الوجوه، معلق سياسي أيضا!

الكتاب يحفل بمحطات كثيرة، لكن اسكندر يربط بينها بحذاقة ومهارة، فتبدو وكأنها وحدة متجانسة. إذا أراد أن يخبرنا عن علاقته بمجموعة "أوربيت" الإعلامية على سبيل المثال، يروي بداياتها بلقاء تم بالمصادفة في مهرجانات بيت الدين مع مواطن سعودي يدعى فهد بن خالد عبد الله. كان هذا الأخير قد سبق ورأى اسكندر غير مرة على الشاشات، لكن اسكندر لم يكن قد التقاه، ولا سمع باسمه من قبل، لكنه عرف من صديقه الإعلامي المصري عماد الدين أديب في وقت لاحق، أن الرجل هو نائب رئيس شركة الموارد السعودية، المالكة لشبكة "أوربيت"، وأن والده هو خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، أحد كبار أمراء المملكة. هذا اللقاء مهد في ما بعد لعلاقة عمل بين اسكندر والمجموعة المذكورة، اقتضت ظهور اسكندر حصرياً على قنوات "أوربيت"، متحدثا في المواضيع الأثيرة لديه، الشؤون الاقتصادية.

إذا أراد المؤلف أيضاً أن يحدثنا عن نشاط اللبنانيين في مصر، يخبرنا عن صبية لبنانية حسناء "ذات ثقافة واسعة وحس حضاري متحفز"، كانت تجلس إلى جانبه في الطيارة بين القاهرة وبيروت، عرف في الحديث معها أنها ابنة رجل اعمال لبناني يملك مزارع لتربية الدجاج في مصر. يخبرنا عن هذا اللقاء الخاص ليأخذنا في حديث عام عن أعمال اللبنانيين في مصر، منهم الذي يملك المزارع، ومنهم من يملك مصنعاً للمفروشات، والآخر الذي يملك مصنعاً للكيماويات أو المصارف، منوهاً بشكل خاص، بجهود رجل الأعمال اللبناني بشارة نمور، ومشاركته رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس في تنفيذ بعض المشاريع.

الكتاب يشمل مواضيع متنوعة، لكن ما يلفت الانتباه فيه أكثر من اي شيء آخر، حديث صاحب السيرة عن نزاهة سياسيي الأمس، التي يفتقر إليها سياسيو هذه الأيام، الذين حولوا لبنان إلى أكثر الدول فساداً في العالم. يحكي عن جلسات جمعته مع الرئيس كميل شمعون، والرئيس الياس سركيس، والعميد ريمون إده، والرئيس سليم الحص، وكيف أنه ذهب ذات مرة إلى دار الرئيس شمعون في منطقة السعديات التي على طريق الجنوب، وسأله: "لماذا تريد تطوير هذا الموقع الجميل الذي تقيم فيه أنت والسيدة زلفا؟". أجابه الرئيس شمعون:" ظروف الحياة متقلبة، وأنا لدي شابان، دوري وداني، وكلاهما يحتاج إلى مصدر دخل ثابت في المستقبل، وليس لي ما اورثهما غير هذه الدار، والأرض التي حولها، ومنزل آخر في دير القمر، وعلي أن أعمل المستطاع كي أطمئن إلى أنهما لن يحتاجا شيئا في المستقبل"!

عن الرئيس سركيس يقول: "ثمة مثل على أخلاق الرئيس سركيس يستحق التذكر. قبيل انتهاء ولايته مع الاحتلال الاسرائيلي لبيروت صيف، 1982 بدأ يبحث عن منزل لاقامته في منطقة اليرزة، فوجد داراً يملكها رجل الأعمال المعروف خالد العصيمي، وحين فاتح المحامي جورج جبر العصيمي بإمكانية شراء الرئيس سركيس الدار، تجاوب هذا الأخير مع الطلب، فاشترى الرئيس سركيس البيت، وسدد الثمن من دون أي نقاش، ومن دون أي مساومة على خفض السعر". ينهي المؤلف حديثه عن الرئيس اللبناني الراحل فيقول" حزنت كثيراً لوفاة الرئيس سركيس في حزيران 1985، ونادراُ ما تعرفت الى انسان بذكائه وحنكته، وروح الصداقة الحقة لديه".

عن العميد ريمون اده يقول: " كان كريماً، وأوصى في وصيته، بتوزيع قسم ملحوظ من أراضيه في البقاع على الفلاحين الذين زرعوها وحرسوها طيلة فترة غيابه القسري، وترك مبلغاً ملحوظا لسائقه ولرئيس الخدم. كان كريم النفس والطباع، وبغيابه خسر اللبنانيون ضمير لبنان".

عن الرئيس سليم الحص يقول: " كان الرئيس الحريري يكن للرئيس الحص الكثير من الاحترام، حتى أنه تبرع له بطائرة خاصة ليستعملها كرئيس للوزراء، لكن الرئيس الحص عهد بصيانتها وتشغيلها إلى شركة طيران الشرق الأوسط، وقليلا ما استغلها لنفسه". في فصل آخر يصف الرئيس الحص برجل "يتمتع بخبرة واسعة في الشأن المالي والاقتصادي، وبأخلاقيات قل نظيرها في المجتمع اللبناني. كان أيضاً شديد الحرص على المال العام وحقوق الناس".

تحملنا المقارنة بين سياسيي الأمس وسياسيي اليوم على العودة إلى التاريخ. نتذكر سياسيين كانت حياتهم بعيدة كل البعد عن البهرجة. نتذكر أن الشيخ بيار الجميل باع فندقا كان يملكه بمنطقة الرملة البيضاء في بيروت ليمول حزب "الكتائب". نتذكر الرئيس كامل الأسعد، الذي لم يكن ميسوراً في حياته ولا يوم وفاته. نتذكر الرئيس أحمد الاسعد، والرئيس صبري حمادة، ولا ننسى بالطبع، الرئيس القدير فؤاد شهاب، الذي تخلى عن الحكم برغم التأييد النيابي والشعبي العام على التجديد له. لا ننسى أيضاً خالد شهاب الذي كان رئيسا للوزراء في عهد الرئيس إميل إده، وعهد الرئيس كميل شمعون، وكان يركب الترامواي في تنقلاته. كتب داوود الصايغ عنه في "النهار" فقال: " كان الرئيس خالد شهاب مكتفياً بشخصه. لم تكن لديه سيارات، ولم يكن لديه موكب. كان هو الموكب، دونما حاجة إلى دراجات وسيارات مصفحة، وصفارات لتدل عليه. يومذاك كان الحكام مثلهم مثل سائر الناس. كانوا أكبر من الكراسي. كانوا حراس أنفسهم وضمائرهم. تعلو بهم الكراسي ولا يعلون بها".

نتحسر على فقدان تلك الطبقة من السياسيين، برغم تباين آرائنا في مواقفهم وفي سياساتهم، ذلك لأنهم كانوا ملائكة، قياساً إلى أبالسة اليوم من الحكام. نتحسر على وطن يخبرنا الآباء والأجداد، أن عهد الفرنسيين كان أفضل بألف مرة من كل عهود ما بعد "الاستقلال"! أتذكر جلساتي الخصبة مع الأديب الراحل خليل رامز سركيس في شقته في لندن يروي لي حكايات وأحداثاً عاينها، وكيف تراجع الوطن الصغير الجميل مع تعاقب العقود، وكان في الأربعينات افضل مما كان عليه في الخمسينات، وفي الخمسينات أفضل منه في الستينات، وفي الستينات أفضل مما كان في السبعينات، حتى وصلنا إلى عقود هي بكل المقاييس أسوأ الأزمنة.

أراني قد ابتعدت قليلاً عن كتاب مروان اسكندر. أعود إليه وأقول إنه كان من الأجدى لو أن المؤلف اختار عنوانا آخر لكتابه، أقل غموضا وأسهل على التذكر، ولم يتطرق إلى أحداث سياسية، لا علاقة لها بسيرته الذاتية، لا من قريب ولا من بعيد، كالذي جاء في الفصل الحادي عشر من الكتاب على سبيل المثال، والمتصل بحرب 2006، والاعتصام والاجتياح عام 2008، والصفحات الخاصة بموضوع نقض اتفاق الطائف في الدوحة وغيرها. لن يفوتي أيضاً التعليق على قوله إن الرئيس رفيق الحريري كان "متديناً"، ولم يكن "متعصباً". التدين من غير تعصب، فضيلة تحسب للرئيس الحريري من غير شك، وتحسب لكل مؤمن، لكن الرئيس الحريري يبقى بمنظورنا المدني، أحد الزعماء الذين مارسوا خلطة الدين بالسياسة، ولو أنه مارسها بقدر يسير. أنفق المال الوفيرعلى بناء مسجد كبير في وسط بيروت، كأن بيروت تنقصها دور للعبادة، في حين كان بإمكانه إنفاق هذا المال على بناء متحف للفنون، أو مسرح، أو دار أوبرا، أو أي منارة حضارية مشعة، تخفف من غلواء الدين ورجاله ومؤسساته، في بلد لا يزال يعاني من أحزابه، وثقافاته الطائفية القاتلة!