الحسين الزاوي

تركز السياسة الدولية بشكل لافت على الملفات التي تهم العلاقات ما بين الدول الكبرى المؤثرة في الساحة العالمية، ويجري الحديث من ثمة عن فضاءات جيوسياسة معينة تشغل الحيز الأكبر من اهتمام الرأي العام الدولي لاسيما على مستوى الملفات الشائكة التي تتعلق بالصراع في منطقة الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الأمريكية المثيرة للجدل، والتحولات التي تشهدها القارة العجوز مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وذلك فضلاً عن الصراع بين الولايات المتحدة والصين وروسيا بشأن المسائل الاقتصادية والمواضيع المتعلقة بمناطق النفوذ بين هذه الأقطاب الدولية.

بيد أن شجرة السياسة الدولية التي تتصدر المشهد العام من خلال القضايا والملفات التقليدية التي أتينا على ذكر بعضها، تخفي في الكثير من الحالات غابات وأرخبيلات متنوعة من المواضيع الدولية التي تهم قسماً معتبراً من سكان العالم بخاصة في أقصى شرق القارة الآسيوية التي تعرف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحولات اقتصادية وتكنولوجية وسكانية تمارس تأثيرات حاسمة على مجموع سكان الكرة الأرضية، إذ إن جزءاً معتبراً من الثروة العالمية يجري خلقها وتطويرها في هذه المناطق البعيدة عن مركز اهتماماتنا الدولية. هناك في هذه البقعة من العالم صراعات صامتة بين دول تشكل قوى صاعدة ومؤثرة في مستوى التوازنات الاقتصادية والسياسية في العالم، حيث إنه وعلاوة على الصراع التقليدي بين الصين والهند، تعيش المنطقة على وقع مواجهة تاريخية متواصلة بين اليابان وشبه الجزيرة الكورية.

وتعود جذور هذه المواجهة الأخيرة إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع تحوّل الإمبراطورية اليابانية إلى قوة استعمارية في محيطها الإقليمي، واحتلالها لمناطق واسعة من شرق آسيا وتحويلها للكوريتين إلى منطقة ارتكاز لنشاطاتها العسكرية في المنطقة برمتها، وقد دام الاحتلال الياباني لكوريا الشمالية والجنوبية من سنة 1910 إلى سنة 1945، ومارست خلاله القوات اليابانية أبشع أنواع القهر للشعب الكوري سواء ضد الرجال أو النساء. وبالتالي فإنه وبالرغم من التعويضات التي قدمتها اليابان لكوريا الجنوبية سنة 1965 في زمن حكم الدكتاتورية العسكرية في سيول، إلا أن ملفات الماضي مازالت ترخي بظلالها القاتمة على العلاقة بين البلدين.
وفضلاً على التوترات المزمنة التي مازالت تميِّز العلاقات بين طوكيو وسيول فإن علاقات اليابان بكوريا الشمالية تشهد هي الأخرى تصعيداً مستمراً على خلفية الملف النووي لحكومة بيونغ يانغ من جهة، وبسبب التجارب المتعلقة بالصواريخ البالستية التي يطلقها الجيش الكوري الشمالي من جهة أخرى، والتي تهدد الأمن القومي لليابان في المقام الأول، بخاصة أن كوريا الشمالية مازالت ترفض حتى الآن كل المحاولات الهادفة إلى تطبيع علاقاتها مع طوكيو.
ويمكن القول بناءً على ما تقدم إن الصراع الأبرز الذي يقلق طوكيو، يتعلق في المقام الأول بخلافها الجيوسياسي والاقتصادي مع سيول، التي باتت تمثل أكبر تحدٍ لنفوذها في المنطقة، إذا وضعنا جانباً العملاق الصيني الذي أصبحت رهاناته وأجنداته تتجاوز نطاق الحسابات الإقليمية؛ وبخاصة في هذه المرحلة التي تحوّلت فيها كوريا الجنوبية إلى دولة مؤثرة يضرب لها ألف حساب نظراً لقوتها الناعمة واستثماراتها الصناعية والتكنولوجية في عدة مناطق من العالم لاسيما في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط.
وتعمل طوكيو في هذا السياق على محاولة استثمار تمسك حكومة سيول بملف ذاكرة الحرب الاستعمارية بين البلدين وحرص هذه الأخيرة على رفع سقف الاعتراف بجرائم حقبة الاحتلال، من أجل إعادة النظر في علاقاتها الاقتصادية مع كوريا الجنوبية وحذفها من قائمة شركائها الاقتصاديين المفضلين، للتأثير في قدرتها التنافسية على المستوى التجاري، لذلك فقد لجأت مؤخراً إلى وضع قيود على صادراتها نحو سيول لبعض المواد التكنولوجية المهمة وبخاصة أن الشركات الكورية الجنوبية الكبرى مثل مجموعتي إل جي وسامسونغ، تستورد العديد من المواد الإلكترونية ذات التقنية العالية المصنعة في اليابان.

ومن الواضح أن المواجهة الصامتة بين الكوريتين واليابان وتحديداً بين سيول وطوكيو ستؤثر بشكل حاسم في المستويين الإقليمي والدولي، لأن استمرار هذه المواجهة على الصعيد الإقليمي سيمنح الصين مزيداً من القوة السياسية والاقتصادية على حساب الطرفين معاً.