عاطف الغمري

لم تكن بعيداً عن مجال الدراسات الاستراتيجية المستقبلية الإجابة عن سؤال وإن اختلفت مفرداته بين دولة وأخرى عما إذا كان يمكن أن يتغير ميزان القوى بين دول إقليمية ودولية، وبين العرب لصالحهم؟ لأن الإجابة بنعم لابد أن تدفع هذه الدول إلى إعادة النظر في سياستها في منطقة الشرق الأوسط بشكل إجمالي.

بصفة عامة، كانت احتمالات التغيير في حسابات «إسرائيل» تعني احتمال حل النزاع العربي «الإسرائيلي» من خلال كفتين متساويتين بشروط مقبولة للجانبين، وليست مفروضة بقوة ضغط طرف على الآخر.
وفي الحسابات الأمريكية، فإن حدوث التغيير يعني أن العناصر التي غيرت وضع الميزان ستتيح للعرب امتلاك إرادتهم السياسية، وأن تكون لهم مواقفهم المستقلة من قضايا السياسة الخارجية، وجذب زمام تسوية المشاكل الإقليمية في دول عربية إلى أيديهم، من بين أيدي أطراف دولية وإقليمية احتكرت عملية التصرف في هذه المشاكل.

وعناصر تغيير ميزان القوى طرحت للمناقشة في مراكز بحوث في «إسرائيل» وأمريكا، وأيضاً في دول إقليمية («إسرائيل»، إيران، تركيا)، باعتبار ما تراه من أن وضع الميزان على حاله دون تغيير هو الذي يسمح لاستراتيجيتها بالتمدد في المجال الأمني لدول عربية.
كان التخوف الذي مس الجميع، هو أن يضع العرب أيديهم على مفاتيح المنظومة الشاملة التي تغير ميزان القوى، وذلك بالتركيز على الأبحاث العلمية الحقيقية، التي تدخلهم عصر التنافس الإبداعي العلمي، وبدء تنفيذ مشروع قومي تكاملي في مجالات التنمية الاقتصادية، وإطلاق آليات الديمقراطية التي تدفع إلى شغل أفضل العناصر للمواقع القادرة على بعث الصحوة والنهضة، والتلاقي بشكل علمي حول وضع استراتيجية أمن قومي عربي فعالة.
لم تكن الأطراف الخارجية التي تحسبت لهذه الاحتمالات، تنتظر إمكانات تحولها إلى واقع، لكنها منذ سنوات مضت بدأت ترسم لنفسها خططاً وسياسات يمكن أن تعرقل حدوث ذلك، أو على الأقل تؤخر حدوثه، عن طريق اتباعها وسائل تستهلك العرب وتستنفذ طاقتهم، وتثير لديهم المخاوف والتوترات المزمنة، لكي لا تتحول مصادر القوة التي يمتلكونها من احتمال ممكن، إلى واقع قائم وموجود، وبذر الفرقة في الصف العربي أو على الأقل الاختلاف في المواقف وفي ردود الفعل تجاه الأحداث التي تجري في المنطقة، منعاً للتلاقي حول رؤية واحدة مشتركة، مع إدراك هذه القوى الخارجية بأن التغيير المفترض في موازين القوى لا يتأتى بتحرك منفرد من هذه الدولة أو تلك؛ لأن مصادر القوة المؤثرة لا تؤتي فعلها إلا إذا تكاملت عناصرها من الكل.
وكان من أساليب الحيلولة من وجهة نظرهم لهذا التحول، ما شهدناه من محاولات خلخلة القدرات الذاتية العربية، وباعترافهم من ممارسة خطة الفوضى الخلاقة، بكل أدواتها من نشر الصراعات الداخلية والطائفية، والحروب المحلية والإقليمية، بما يفتح مجالات هذه الدول أمام اقتحام ميليشيات إرهابية لحدودها، إلى أن يصل التدهور الداخلي فيها إلى مرحلة تسهل للقوى الدولية والإقليمية أن تلعب دورها، وللتدخلات الخارجية الطامعة في هذه الدول فرصة لكي تقتنص مساحات من أراضى هذه الدولة، فضلاً عن استنزاف ثرواتها عن طريق الميليشيات الأجنبية التي استخدمتها.

أيضاً، التوسع الذي مارسته دول إقليمية، فتركيا لم يتوقف زحفها عند إقامة قاعدة عسكرية هنا أو هناك؛ بل توسعت إلى مدى إقليمي أبعد من ذلك بقرار رئيسها أردوغان إرسال قوات إلى ليبيا، في خطوة تعد تهديداً للأمن القومي العربي بشكل عام.
لم تكن تلك النظرة للعرب آتية من فراغ، فهم يمتلكون مصادر قوة يمكن أن تغير من معادلة علاقتهم بالآخرين، وهم بالمقارنة بغيرهم يمتلكون أدوات تشغيل هذه المصادر.
وهناك دول أخرى صاعدة شهدت قفزات نحو التقدم، لا تمتلك ما يمتلكه العرب من أسبابه، بينما تغير لدى الآخرين الميزان السياسي لعلاقاتهم بغيرهم. وبخلاف نموذجي الصين والهند اللتين ارتقتا إلى مجالات عالية من التقدم، هناك دول صغيرة استطاعت باستراتيجية تعرف هدفها ووسائل تشغيلها، أن تجعل من نفسها قوة منافسة اقتصادياً على المستوى العالمي، وبالتالي وصلت إلى امتلاك نفوذ إقليمي ودولي، وصار يحسب لها حسابها في ميزان العلاقات الدولية.