حمد الماجد

فيروس كورونا مع مهمته التدميرية التقليدية في التسلل للرئتين وإرباك التنفس، له أيضاً مهمة إيجابية في التسلل إلى النزاعات الإنسانية، فيقضي على بعضها، ويضعف بعضها، ويخلخل البعض الآخر، فعلى مستوى النزاعات السياسية الدولية أو الإقليمية تمكن فيروس كورونا إما من إصلاح ذات البين في الخلافات السياسية، وإما أقنع المتنازعين بالدخول في هدنة، وإما قادهم إلى تخفيف حدة التراشق الكلامي فتنازعوا بمفردات مقبولة بعد أن كانت مفردات نارية حادة. حتى النزاعات الحزبية والسباقات الانتخابية مرّ عليها الفيروس الكوروني، فاعترى أصحابها هدوء وسكينة، فبدأ المرشحون بفعل الرشح الفيروسي الكوروني وكأنهم في ندوة أكاديمية، لا في صراع انتخابي محموم أضعف ضربة فيه تحت حزام المتنافسين.
فيروس كورونا الذي تشن عليه البشرية أشرس حرب، واتفقت على ملاحقته بكل أطيافها العرقية والدينية والآيديولوجية للفتك به هو ذاته الفيروس الذي رمم العلاقات البشرية الاجتماعية التي نخرتها الحفلات المتنوعة، وخلخلتها رحلات العمل، وأضعف رابطتها المولات واللهاث وراء الماركات، هذا الفيروس الهزيل هو الذي ألغى رحلات العمل والسياحة، وهو الذي ختم بالشمع الأحمر على المولات، وأعاد كل أعضاء العائلة إلى عشها، فأمسوا يقضون في كنفه ودفئه اليوم كله، وصارت العائلة تأكل وجباتها و«سناكاتها» في البيت، فتعززت الحميمية وتوثقت العلاقة.


فيروس كورونا نكش بمنقاشه الدقيق تضخم الذات البشرية التي تفاخر بالسباحة في فضاء الكون السحيق، فتلامس القمر وتمشي على زحل وتتبختر بمركباتها في المجرة، وتباهي بتقنياتها المذهلة، وتفخر بمخترعاتها الرهيبة، ومع هذا كله تعجز بكل تقنياتها وخبراتها وعلمائها ومعاملها وجامعاتها وتجاربها وتريليوناتها أن توقف الغزو الفيروسي بقيادة الجنرال كورونا، الذي بالكاد يُرى بالمجهر الدقيق جداً، لتبرز عظمة الخالق في مخلوق صغير.
فيروس كورونا أجبر المجتمعات بكل طبقاتها على الدخول في دورة تعليمية مكثفة في كيفية التعلم عن بعد، والتسوق عن بعد، ومرافعات المحاكم عن بعد، وإنجاز المعاملات الحكومية والقطاع الخاص عن بعد، والسياحة عن بعد، ومشاهدة كل أنواع الترفيه والأفلام الهوليوودية والوثائقية عن بعد، وزيارة الأقارب والمعارف عن بعد.
لقد اخترق فيروس كورونا الجهاز العصبي للبيروقراطية، وأمست القرارات تُنفذ في لمسة كيبورد، بعد أن كانت تتطلب أسابيع بل أشهراً، وأحياناً سنوات، وأولها الإجراءات المملة للموافقة الحكومية الأميركية على إقرار الأدوية، فقد رضخ الرئيس الأميركي دونالد ترمب لهذا الفيروس مقراً بخطورته مستنجداً بشركات الأدوية، واعداً إياها بالاختصار الشديد للإجراءات البيروقراطية، بل بالرد الفوري على طلبات مصنعي اللقاحات والترياق.
«كورونا» ضَبَطَ إعدادات العلاقات الإنسانية، بعد أن هز اقتصاد الكوكب الأرضي وطَوَّح ببورصاته وأخلى الملاعب والمسارح والأسواق العالمية، وقد تسنح له الفرصة، إن واصل انتصاراته مع البشر، أن «يفرمت» العولمة وأحادية القطب الواحد، فيعز الذليل ويذل العزيز.